ما يلي هو ترجمة بالتعاون مع «مدى مصر» لنسخة مختصرة من نقاش مائدة مستديرة ضمن مشروع  «النَزَعات العابرة للحدود الوطنية في المواطنة: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، لمؤسسة القرن الدولي/ the century foundation.بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.


توفر المنشورات على الإنترنت والشبكات الاجتماعية أحد المداخل القليلة للباحثين الذين يدرسون الجماعات المسلحة السرية والعنيفة. يمكن أن تستخدم المجموعات منصات الإنترنت لتجنيد الأعضاء وحشد الدعم العام وبث الدعاية. ولكن لم تُصنَع جميع المساحات السيبرانية بشكل متساوِ -بعضها أكثر خصوصية من البعض الآخر- ولا تعد البيانات الموجودة على الإنترنت دائمًا المساحة الأكثر صلاحيةً للاستعمال من أجل التعرف على أعمال العنف المُخططة من قِبَل جماعة مسلحة. يعمل كلٍ من «حافظي العهد» في الولايات المتحدة و«الدولة الإسلامية»، بقاعدتها في بلاد الشام وتطلعاتها العالمية، في سياقات شديدة التباين، وبأهداف مختلفة للغاية. لكن الباحثون يستفيدون بشدة من مقارنة تقنيات البحث التي يطبقونها على أنشطة الجماعات المسلحة السيبرانية. كيف يمكننا دراسة الجماعات المسلحة العنيفة عبر الإنترنت بأقصى درجة من الفاعلية؟ وما هي حدود ذلك؟


سام جاكسون: توفر الوسائط الرقمية مصدرًا رائعًا للبيانات لدراسة الجماعات التي تحض على الكراهية أو الميليشيات (أو حول أي فاعل اجتماعي أو سياسي آخر)، ويعتمد ذلك على ما نريد معرفته عن هذه المجموعات. أي شخص يستخدم الإنترنت فهو يستخدم مساحات رقمية متنوعة لأغراض مختلفة. تُعد بعض منصات التواصل الاجتماعي مفيدة  لا سيما في العثور على أشخاص جدد يشاركونك أفكارك أو مخاوفك أو موقعك على الأرض خارج الإنترنت. تسمح منصات الدردشة وتطبيقات المراسلة للأشخاص بالحديث مع المعارف الموجودين بالفعل (أو مع معارف المعارف) في مساحة أقل عمومية. كما تساعد مواقع مشاركة الملفات الأشخاص على مشاركة المحتوى الذي يرغبون في أن يكون أكثر ديمومةً وأقل وقتية (على سبيل المثال، بيان في مقابل تعليق على الأخبار العاجلة).

يشير دارسو الوسائط الرقمية إلى أن ما تتيحه المنصات الرقمية المختلفة يشكل ويقيّد ما يفعله المستخدمون على هذه المنصات. على سبيل المثال، تشكل حقيقة تشفير تيليجرام طريقة استخدامه المُعتادة: فهو أكثر أمانًا من حيث المراقبة (والبحث) ولكنه ليس ذو جدوى عالية في الوصول إلى جماهير جديدة.

لكن من المهم إدراك أننا قد لا نعرف ما نريد معرفته إذا بحثنا في المكان الخاطئ. على سبيل المثال، إذا أردنا معرفة ما إذا كانت مجموعات الحض على الكراهية تخطط لنشاط إجرامي، فمن غير المرجح العثور على هذا النشاط على فيسبوك، ولكن من المرجح العثور عليه على تيليجرام أو على ديسكورد أو على أحد مواقع المحادثة. من ناحية أخرى، إذا أردنا فهم ما تشاركه المجموعات كي تعرض نفسها للعامة لبناء صيتها الشعبي، فقد يكون فيسبوك موقعًا جيدًا للبحث (على افتراض أن المجموعة لم يتم حظرها على هذه المنصة).

البروباجندا مقابل التخطيط

آرون لوند: نقاط عظيمة يا سام. بالنسبة لي، فأنا غير مواكب بعض الشيء للتطور التكنولوجي، وقد يئست منذ فترة طويلة عن مواكبة الإنترنت، مما يعني أنني ربما لن أعرف أبدًا ما هو ديسكورد. ومع ذلك، فلقد أجريت الكثير من البحث عبر الإنترنت عند دراسة الميليشيات والجهاديين العابرين للحدود في الشرق الأوسط، باستخدام تويتر وفيسبوك وبعض التطبيقات المشفرة مثل تيليجرام. وعلى الرغم من اختلاف مقاتلي الشرق الأوسط عمن تتابعهم، فإن الكثير مما تقوله عن البحث عبر الإنترنت يبدو مألوفًا.

يبدو أيضًا أن هناك أوجه تشابه في كيفية تأثير البيئة السيبرانية -ديناميكيات وسائل التواصل الاجتماعي، والتنافس على الظهور، وكل ذلك- على سلوكهم وعلاقاتهم. تنتج وسائل التواصل الاجتماعي نرجسية متباهية، وتجذير ذاتي، وفقاعات في مجموعات، لا سيما بين الأشخاص الموجودين بالفعل على الهامش الجنوني. انظر إلى المقاتلين الأجانب المنضمين إلى «الدولة الإسلامية»: إنهم في الأساس جيل «القاعدة» على يوتيوب.

إن نقطتك حول الاتصالات المفتوحة كوسيلة للعلاقات العامة، وليس للتخطيط، تذكرني بالعمل الحر الذي كنت أقوم به لشركات استشارات في مجال المخاطر منذ حوالي عقد. كان هذا قبل انتقال الجهاد إلى تويتر وتليجرام، وأرادوا مني قراءة المنتديات العربية المرتبطة بـ«القاعدة» على الإنترنت والبحث عن دردشات حول أفراد أو شركات معينين. لم يكن هناك أي شيء من هذا القبيل. كانت هذه المنتديات مملة بشكل لا يصدق. يبدأ موضوع المناقشة المُعتاد ببيان صادر عن «القاعدة» أو «الشباب» أو مجموعة أخرى، وبعد ذلك ستجد عدة صفحات من ردود لرجال يحملون أسماء مثل «مجاهد_999» ويكتبون «شكرًا لك أخي» أو «الله أكبر». 

لذلك، في حين أن هذا النوع من البحث عبر الإنترنت كان عظيمًا لمواكبة آخر تحديثات الدعاية الجهادية، إلا أنه كان عديم الفائدة تقريبًا لمعرفة الأسرار. تُجرى الأعمال الداخلية الحقيقية لهذه المجموعات على الأرض خارج الإنترنت أو في بيئات مشفرة لن نتمكن من الولوج إليها بسهولة كباحثين أو كصحفيين.

جاكسون: بالتأكيد! الكثير من النشاط عبر الإنترنت يكون مقتضبًا أو عاديًا، خاصة عند البدء بالتفكير في الأعضاء العاديين وداعمي هذه الأنواع من المجموعات. إذا كان ما نهتم به هو الأشياء الدسِمة -أو بشكل أكثر رسمية، إذا كنا نهتم بالبيانات الموجودة على الإنترنت التي بإمكانها إخبارنا بشيء ما عن أيديولوجيات أو أنشطة هذه المجموعات- فعلينا أن نكون في منتهى التروي والقصدية حول نوع البيانات الموجودة على الإنترنت التي قد تكون مفيدة.

التفكير في بعض تبعات وسائل التواصل الاجتماعي التي تبيَّنتها على من هم في هذه المجموعات والحركات أمرٌ مثير للاهتمام. يبدو من المنطقي أن بعض هذه الديناميكيات تحدث أيضًا في «المؤسسات الشاملة» الموجودة خارج الإنترنت أو غيرها من المجتمعات الموجودة على الأرض، والتي يتفاعل فيها المشاركون بأغلبية ساحقة مع أشخاص يشبهونهم في التفكير. في كلا المساحتين السيبرانية والمؤسسات الشاملة على الأرض، التي تتميز بالتشدد أو التطرف (وفقًا لتعريف جي إم بيرغر للمصطلح)، قد يجد المشاركون أنفسهم في «غرف صدى للقبح» حيث يُحاطون بخطاب خطير عن عدوٍ ما أو آخر يجردهم من إنسانيتهم ​​ويؤسس خطابيًا لواقع يتسم بمعركة بين الخير والشر. ربما ينبغي لهذا أن يلفت انتباهنا إلى أوجه التشابه بين بعض المساحات السيبرانية وبعض المساحات الموجودة على الأرض. فبشكل عملي، تتسم بعض المساحات السيبرانية بالعمومية أكثر من غيرها، تمامًا كما هو الحال في العالم المادي خارج الإنترنت، وتوفر الأماكن العامة باختلافاتها درجات متفاوتة من الخصوصية. وقد يكون هناك قواسم مشتركة بين نوع السلوك الذي يحدث في الأماكن السيبرانية العامة والأماكن المادية العامة أكثر من المساحات السيبرانية الخاصة.

من المنحدرات السيبرانية إلى «المؤسسات الشاملة» على الأرض

لوند: أعتقد حقًا أن جاذبية التطرف في المساحات السيبرانية كانت أساسية في تحديد الثقافة السياسية وثقافة التواصل لدى «الدولة الإسلامية». عندما انفصَلَت عن «القاعدة»، انضم معظم الشباب الجهادي القادم من الغرب إلى «الدولة الإسلامية»، والتي كانت بالأساس نسخة دموية أكثر لفتًا للانتباه من «القاعدة». إن موقفها السياسي المتعلق بالمدرسة الجهادية القديمة، كشاكلة أيمن الظواهري، يتشابه مع الطريقة التي ترتبط بها «بازفيد» بـ«نيويورك تايمز».

يبدو أن هذه الديناميكية تشكل جزءًا كبيرًا من سبب ازدهار التطرف اليوم -أكان تطرف جهادي أو يميني أو يساري أو مؤامراتي كيو آنوني. يوفر الإنترنت بيئة اجتماعية مصممة بشكل مثالي للاستقطاب والتجذُّر، مما يؤدي بالأفراد إلى شبكات متطرفة يستمرون ضمنها وداخلها. أظن أن الأثر البنيوي أكثر أهمية لتجنيد المتطرفين من سهولة توافر الاتصالات المشفرة والمساحات الخاصة. لكنهم بالطبع يتمتعون بذلك أيضًا.

ومع ذلك، فإن مثال «الدولة الإسلامية» يُظهر أيضًا الحدود التي يفرضها النظر إلى شيء ما من الزاوية السيبرانية. لم يُجَنَد معظم جنود «الدولة الإسلامية» عبر الإنترنت أو لم تُغسل أدمغتهم ذاتيًا بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي. لقد جاءوا للجماعة من خلال الحروب الأهلية في سوريا والعراق. إنها قصة تمرد، وصدمة الصراع، وأمراء الحرب، والسياسة القبلية، وجميع أنواع القضايا شديدة المحلية، والتي يمكننا معرفة القليل جدًا عنها عبر الإنترنت. أما بالنسبة لكبار قادة «الدولة الإسلامية»، فلقد انبثقوا  تحديدًا من نوع «المؤسسات الشاملة» المغلقة الموجودة خارج الإنترنت، والتي تحدثت عنها: من العمل السري في المقاومة العراقية، ومن سجون؛ «أبوغريب»، و«معسكر بوكا»، و«صيدنايا» -من سجون الأسرى الجهاديين، التي تحولت إلى بؤر لإنتاجهم الأيديولوجي والتشبيك فيما بينهم.

جاكسون: أعتقد أن هناك نقطة مهمة حقًا مضمنة فيما تصفه هنا. ربما يجب أن نتوقع رؤية بعض الأنشطة السيبرانية أكثر تمحورًا حول إشباع الرغبة في الغضب وبعضها الآخر يتمحور بدرجة أكبر حول جعل الأشخاص يقومون بتغييرات جذرية في حياتهم للانضمام إلى منظمة محظورة. ربما يمكن لتغذية الغضب النجاح في تمهيد الطريق لتشجيع شخص ما على الانضمام إلى جماعة محظورة، ولكن من غير المحتمل أن يشارك معظم الأشخاص الذين يغذون غضبهم -أو حتى من يساهمون في تغذية غضب الآخرين- خارج نطاق الدعاية. (آمل ألا يظهر هذا على أنه يوحي بأن الدعاية ليست مهمة -فهي كذلك بالتأكيد، حتى فيما يتجاوز الروابط المباشرة بين الدعاية والنشاط المحظور خارج الإنترنت).

بمعنى ما، فإن جانبي الدعاية والتجنيد للنشاط السيبراني هما لعبة أرقام. طور المحلل جي إم بيرجر قاعدة بيرجر شبه المازحة للتجذُّر: «في المتوسط، 15% من أي مجموعة معطاة هم أوغاد، لكن أقل من 1% هم أوغاد عنيفون». إذا كان الهدف النهائي لجماعة مسلحة هو زيادة عدد المشاركين في نشاط  محظور (بمعنى آخر، خلق المزيد من الأوغاد العنيفين)، فقد تكون إحدى طرق القيام بذلك هي مجرد زيادة عدد الأشخاص الذين يعتنقون الأفكار التي تروج لها الجماعة المسلحة (بمعنى آخر، خلق المزيد من الأوغاد).

أعتقد أن بعض أنواع المتطرفين هم أكثر من مجرد مستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي -إنهم نتاجها. طائفة كيو آنون لم تكن موجودة قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يكن لها أن توجد.

يذكرني هذا أيضًا بنص ساخر كتبه سيموس هيوز قبل بضع سنوات عن تجذُّر أجهزة الفاكس. يصف تحليل هيوز الخيالي أجهزة الفاكس الموجودة أسفل أسرة الأطفال بأنها علامات تحذير من التجذُّر. تحذر النكتة من التعامل مع التكنولوجيا نفسها على أنها القوة الدافعة للتطرف. على الرغم من أهمية دراسة الوسائط التي تستخدمها الجماعات المسلحة، فإننا بحاجة إلى توخي الحذر لتجنب العلوق في ذلك الوسيط. يمكن أن تكون وسائل التواصل الاجتماعي أداة مهمة لهؤلاء الفاعلين، لكن هذه الأنواع من الجماعات كانت موجودة قبل وسائل التواصل الاجتماعي وستظل موجودة بعدها.

لوند: أتفق ولا أتفق أيضًا. مقالة هيوز مضحكة، وهي تشير إلى نقطة جيدة. للسلطة الرسمية طريقتها في الارتباك من التهديدات الجديدة المزعومة، والتي تصلح للمحاكاة الساخرة. ولكن إليك الخلاف: أعتقد أن بعض أنواع المتطرفين هم أكثر من مجرد مستخدمين لوسائل التواصل الاجتماعي -إنهم نتاجها. حتى لو بقيت المفردات الأيديولوجية على حالها، فهناك اختلاف في طريقة عمل هذه الحركات وفي من ينضم إليها. لقد أوضحت نقطة ذات صلة مرتبطة بـ«الدولة الإسلامية» في مقابل «القاعدة» في وقت سابق. طائفة كيو آنون من الأمثلة الأكثر وضوحًا، على الرغم من اختلافها الكبير. فهي لم تكن موجودة قبل وسائل التواصل الاجتماعي، ولم يكن لها أن توجد.

تبدو قاعدة بيرجر دقيقة! لكن زيادة عدد المصدقين، أو الأوغاد، هي مهمة كبيرة، خاصة إذا كانت المجموعة صغيرة. لنتذكر أيضًا أن الكثير من الجماعات المتطرفة لا تهتم فقط بتضخيم رقعة من يشاركونها الفكر. بل تريد أيضًا أن تصير المنظمة القائدة لكل شيء. سواء في حركات التمرد المتفرقة والحروب الأهلية، كما هو الحال في سوريا، أو بين المتطرفين الموجودين على الإنترنت، أكانوا جهاديين أو يساريين أو يمينيين، غالبًا ما تكون هناك منافسة بين الجماعات التي يُفترض أن تكون، من الناحية المنطقية، حليفة.

يبدو أن السياسة على الإنترنت تنافسية بطبيعتها. من السهل العثور على البدائل والتبديل بينها، لذا تتحول السياسة إلى سباق لجذب الانتباه. أعتقد أن هذا قد يساعد في تفسير السبب وراء كون الإرهاب المنظم الحديث يبدو غالبًا انطوائيًا، كما لو كان يخدم المجتمعات ذات الفكر المماثل، مع القليل من الجهد المبذول لإشراك المجتمع الأوسع. على سبيل المثال، تُعد فيديوهات «الدولة الإسلامية» الدامية نوعًا من التطرف الأدائي المفرط الذي يتماشى جيدًا مع المتطرفين الطائفيين، ولكنه مروعًا إذا كنت ترغب في مناشدة المسلمين العاديين. لكن حقيقة أن هذا التموضع الغاشم ينفر الأشخاص العاديين ليس بالمشكلة إذا كان جمهورك المستهدف هو الجناح الطائفي، بل غالبًا ما يكون ميزة: قيمة الصدمة تخلق الجدل، وتجلب لك التغطية الإعلامية التي تبحث عنها، وتبني علامتك التجارية.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة:

سام جاكسون، أستاذ مساعد بكلية التأهب للطوارئ والأمن الداخلي والأمن السيبراني بجامعة ألباني.

آرون لوند، زميل بمركز القرن الدولي للأبحاث والسياسات «Century International»،  ومحلل الشرق الأوسط بوكالة أبحاث الدفاع السويدية «FOI».