بينما تختبر الحرب اليوم قواعد النظام الدولي، يجتاح العالم شعور عام بالضيق، ففي كل دول العالم، ما بين أوروبا وأمريكا الشمالية حتى الشرق الأوسط وما وراءه، ينظر عامة الناس إلى السياسة باستخفاف باعتبارها سعيًا فاسدًا لخدمة المصالح الشخصية وتحقيق الثراء الشخصي دون أي اعتبار للصالح العام. يترتب على هذا التصور  شعور باللامبالاة والقنوط، والذي بدوره يمنح السياسيين الفاسدين مزيدًا من السلطة لاستغلال النظام لخدمة مصالحهم.

 هذه النتيجة ليست حتمية، يمتلك  المواطنون القوة على إصلاح السياسة وتغيير دورها في المجتمع المعاصر. وفي سبيل استعادة الدور المحوري للمواطنين في السياسية، ستكون الحركات السياسية الجماهيرية أمرًا ضروريًا، وسيكون للمقاومة المدنية السلمية دورًا رئيسيًا في هذا الحراك، سواء في  إطلاق شرارته أو تحديد تكتيكه الأساسي.

 يخبرنا التاريخ أن التحركات الجماهيرية السلمية المنظمة لديها القدرة على تحقيق تحول سياسي حقيقي. وقد كنت شاهدًا على ذلك خلال عملي، فأثناء سنوات دراستي، كنت واحدًا من القيادات التنظيمية لحركة «أوتبور» التي لعبت دورًا مهمًا في الحراك السلمي الشعبي الذي أطاح برئيس صربيا في عام 2000، ومنذ ذلك الحين، تواصلت مع عشرات المجموعات المنخرطة في حركات المعارضة في مجموعة كبيرة من الدول، ودرستها وتعلمت منها، ما بين حركات الثورة البرتقالية الأوكرانية في عام 2004 وحتى الثورة السودانية ضد عمر البشير في عامي 2018 و2019. وعلى الرغم من أن تلك المجموعات لا يجمعها الكثير من القواسم المشتركة لا من حيث توجهاتها السياسية ولا خلفياتها الاجتماعية والاقتصادية والديموغرافية، فإن في كل تلك الحركات السياسية، كان للحشد المدني الجماهيري دورًا مهمًا في خلخلة السلطة وتغيير طريقة الحكم.

 وخلال العقد ونصف العقد الماضيين، أظهرت شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأوروبا وأمريكا الشمالية استعدادها مرارًا للخروج إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير أو لمجرد التعبير عن غضبها.

 ولكن الحماس ليس كافيًا، لأنه مهما بلغ حجم الاحتجاج فإنه ليس كافيًا بمفرده لتحقيق التغيير السياسي، بل يجب تنميته ليصبح كيانًا أكثر صلابة، أي أن يصبح حركة. وتستلزم تلك التنمية عملًا منظمًا، فلا بد من التنظيم، أحيانًا لسنوات، قبل خروج الاحتجاجات الكبرى إلى الشوارع. بل والأكثر من ذلك، يجب أن يستمر العمل المنظم بعد الخفوت الحتمي لحماس الخروج إلى الشوارع في بدايته من أجل التقدم إلى نقطة أبعد من مرحلة الاحتجاج نحو أشكال أخرى من الحراك. ولكن من ناحية أخرى، فلا يمكن بناء الحركات السياسية على نفس نمط المنظمات التقليدية. فإن الحركات السياسية بطبيعتها عفوية، وغالبًا ما تتميز بهياكل قيادية مرنة. وقد أصبح هذا أكثر صدقًا في عصر الإنترنت، ومع ذلك، فإن نجاح الحركات السياسية يعتمد على عملها وفقًا لاستراتيجية معينة. وسوف يتفاوت شكل تلك الاستراتيجية بشكل كبير حسب السياق المحلي، ولكن هناك أربع سمات أساسية يجب أن تتوفر بأي حركة، يمكن وصفها بالشروط اللازمة لتكون الحركة وهي: صياغة المظالم، وكشف الفشل المؤسسي، واتحاد المجموعات المختلفة، وصقل مهارات التخطيط للحراك المدني.

 يواجه العالم اليوم عددًا كبيرًا من الأزمات المقلقة والمتداخلة؛ الحروب ووباء «كوفيد-19» وعدم المساواة والتغير المناخي والانهيار البيئي على سبيل المثال لا الحصر. ويعزز الكثير من تلك الأزمات بعضه البعض، كما يتقاطع معها عددًا من الآفات المزمنة مثل؛ العنصرية والتمييز على أساس الجنس والتعصب بجميع أشكاله والفقر الهيكلي وممارسات العمل الاستغلالية. وفي تلك الأثناء، أدت التقنيات الجديدة إلى خلق شعور بالعزلة وانتشار المعلومات المغلوطة والتطرف وتفكك الروابط الاجتماعية. كل تلك المشاكل لن تعالجها التكنولوجيا ولا المبادرات الفردية، وبالطبع لن تعالج نفسها بنفسها، بل سوف تعالجها السياسة، وبالتحديد عودة السياسة إلى أيدي المواطنين. ولدينا بالفعل خارطة طريق لتحقيق ذلك إذا كنا مستعدين للتعلم من أخطاء الماضي ومن تجارب الآخرين في مختلف القضايا عبر الحدود الوطنية. ولكن ليس لدينا وقت لنضيعه.

دور الحركات السياسية

إن الأزمة السياسية تتفاوت تجلياتها في مختلف أنحاء العالم، ففي الدول القائمة على مؤسسات ديمقراطية، يتدهور الوضع الاقتصادي لقطاع كبير من المجتمع وتنحصر خياراته ما بين النخب المنفصلة غير المبالية والشعبويين الانتهازيين. وبات الآن أكثر وضوحًا أن الأنظمة الديمقراطية التقليدية غير قادرة على الاستجابة بفعالية إلى احتياجات المواطن العادي، وبالتالي فإن تلك الأنظمة نفسها تتردى. أما في الأنظمة السلطوية وشبه السلطوية، يأخذ هذا التردي منحنى أكثر حدة، مقوضًا بذلك الأمل في أن يقود التحرر الاقتصادي إلى تحرر سياسي، وأن يحول نمو الطبقة المتوسطة تلك البلدان إلى ديمقراطيات. والحقيقة أن عملية التحول الديمقراطي في جميع أنحاء العالم انتكست وتراجعت على مدار أكثر من عقد، بحسب توثيق منظمة فريدم هاوس. وإذ تستعيد السلطوية نشاطها، يتزايد استهداف منظمات المجتمع المدني ويقف الدعم الدولي التقليدي للديمقراطية وحقوق الإنسان في محل الدفاع.

اليوم، حتى في الدول القائمة على مؤسسات ديمقراطية، تنحصر خيارات قطاع كبير من المجتمع ما بين النخب المنفصلة غير المبالية والشعبويين الانتهازيين.

ورغم تعدد أوجه الأزمات السياسية حول العالم، وحقيقة أن العديد من أزمات العصر المتداخلة تبدو غير مسبوقة، فإن الأمثلة التاريخية على الحركات السياسية الناجحة متنوعة بنفس القدر وجدير بها أن تمنحنا الأمل. وبقدر ما تبدو تلك الأزمات المتشابكة التي تواجه العالم، مثل عدم المساواة والعنف الممارس من قبل الدولة، سببًا لليأس، فإنها في كثير من الأحيان تكون المولد للاحتجاجات الجماهيرية التي كثيرًا ما توفر فرصة للمنظمين أن يحولوا قضاياهم إلى حركات سياسية.

ّINSERT PHOTO HERE

عندما نفكر في حركات سياسية جماهيرية تقوم بأعمال مقاومة مدنية، قد يتبادر إلى أذهاننا مشاهد لمظاهرات في الشوارع أو لإضراب عمالي. بالإضافة إلى مشاهد أحداث تاريخية كبرى مثل سقوط جدار برلين في عام 1989 منهيًا بذلك الحكم الشيوعي في أوروبا الشرقية، أو توافد المتظاهرين على مدينة مانيلا في عام 1986 مطالبين فرديناند ماركوس بالتنحي بعد عقود من حكمه الاستبدادي للفلبين، أو الحشود في مصر وتونس إذ تطيح بحكامها الديكتاتوريين بين عامي 2010 و2011. وهناك صور أخرى قد لا يكون لديها نفس التأثير بصريًا ولكنها بنفس القوة، مثل حركة المقاطعة التي قام بها المستهلكون في جنوب إفريقيا في عهد الفصل العنصري، والتي قوضت الأساس الاقتصادي له. أو قد نفكر في لحظات الشجاعة الفردية عندما غير أناس عاديين مجرى التاريخ بتحديهم القمع، مثل روزا باركس ورفضها التخلي عن مقعدها في الحافلة، أو موهانداس غاندي إذ يقود كفاح الاستقلال الهندي في مواجهة الحكم البريطاني بمسيرته لصناعة الملح على ساحل المحيط الهندي في عام 1930.

لم يكن النجاح الذي أحرزته تلك الحركات السياسية وليد الصدفة، ولكنه كان نتيجة لتخطيط دقيق. فعلى سبيل المثال، كان لما فعلته باركس هذا التأثير لأنه كان مسبوقًا ومتبوعًا بعمل منظم من الجمعية الوطنية للنهوض بالملونين، كما ربط بالنطاق الأوسع لحركة الحقوق المدنية. ووضعت هذه الحملات فعلًا فرديًا في سياق أوسع للصراع، وشكلت هيكلًا من ِشأنه أن ينتج عناصر مؤثرة وقيادات متنوعة، كما يجعل هذا الفعل الفردي ممكنًا.

اللاعنف تكتيك أثبت فاعلية

بينما نعد الأمثلة الشهيرة ملهمة، قد نتساءل إذا كانت تلك الأمثلة هي حالات معزولة لا علاقة لها بالاتجاهات العامة، وقد ننتهي إلى أن نجاح تلك الحركات السياسية كان محض صدفة أنتجها فقط وجود أفراد استثنائيين في ظروف استثنائية. وبالإشارة إلى النتائج المحبطة التي أعقبت الانتفاضات العربية، يعتقد البعض أن المقاومة المدنية تنطوي على مخاطر كبيرة تتمثل في عمل الحركات السياسية على زعزعة استقرار مؤسسات الدولة وافساح المجال للتيارات المتمردة العنيفة لإغراق البلاد في حروب أهلية.

وإن كان من المفيد أن نتشكك في النظرة المغرقة في التفاؤل حول الاحتجاجات، فإن كل قصة تحمل عبرة تحذيرية، هناك الكثير من الأمثلة التي تشير إلى أن المقاومة المدنية أكثر قوة وفاعلية مما يعتقد غالبية الناس في تحقيق مكاسب حقيقية لصالح حقوق الإنسان والديمقراطية والعدالة. وتعطينا الأمثلة التاريخية دروسًا يمكننا أن نستدل بها نحن أيضًا في مواجهة محن عصرنا وأزماته.

إن علينا الاسترشاد بالأدلة في بحثنا عن إجابات لتلك التساؤلات، ولحسن الحظ، لدينا بعض الأدلة القوية التي يمكن أن نخرج منها ببعض الاستنتاجات. في دراسة أجرتها الباحثتان إريكيا تشينويث وماريا ستيفان في عام 2011 لتقييم 323 حملة مناوئة لحكومات قائمة ما بين عامي 1900 و2006 عن قرب، تبين أن حوالي ثلثي تلك الحملات كان ذا توجه عنيف وثلثها كان سلميًا1 . وكانت النتيجة الرئيسية التي توصلت إليها الباحثتان هي أنه في المتوسط، كانت حملات المقاومة المدنية تنجح في تحقيق أهدافها بنسبة 53%، أي أكثر من ضعف معدل نجاح الحملات العنيفة.

ومع ذلك، تظهر البيانات الحديثة بعض التحديات العصيبة التي علينا أن نواجهها. فرغم أن المتوسط التاريخي لمعدلات النجاح مشجع للغاية، انخفض معدل نجاح حملات المقاومة المدنية منذ عام 2010. وهذا اتجاه مقلق ويجب فهمه بشكل أفضل من أجل النجاح في تغييره، ولكن من المهم التأكيد على أنه حتى مع تراجع فعاليتها، يظل نجاح المقاومة المدنية أرجح من المقاومة المسلحة في إسقاط الأنظمة القمعية وتحقيق الحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

 وليس هناك محددات لمن يمكنه تنفيذ أعمال مقاومة مدنية، فقد يكون ذلك شخصًا بمفرده، أو مجموعة صغيرة، أو منظمة رسمية؛ مثل نقابة عمالية تستعد لتنظيم إضراب أو شخص يرفض التجنيد في الجيش ويحرق بطاقة التجنيد الخاصة به، أو مظاهرة سلمية تتحرك بشكل عفوي. إلا أن المقاومة المدنية تكون أكثر فعالية عندما تكون مدفوعة بحركات سياسية شعبية واسعة.

تصحيح المصطلحات

على الرغم من الخلط بين الاحتجاج والحركة في الخطاب العادي، لكنهما ليسا شيئًا واحدًا، فالاحتجاج هو حراك تكتيكي قصير المدى، أما الحركة فهي جهد استراتيجي طويل المدى للحشد والتنظيم. من أجل فهم هذا الاختلاف بشكل أفضل، بالإضافة إلى كيفية تحويل الاحتجاج إلى الحركة، قد يكون من المفيد تتبع تاريخ المصطلحين، والنظريات حولهما واستخدامهما الصحيح والخاطئ.

إن الحركة تتطلب نوعًا مختلفًا من التنظيم عما يتطلبه الاحتجاج، واليوم يُستخدم مصطلح «الحركة» على نطاق واسع (ويُساء استخدامه أيضًا) من قبل القادة السياسيين والصحفيين والمؤرخين وأحيانًا حتى الشركات، كما يشير السياسيون إلى حملاتهم الانتخابية أحيانًا بـ«الحركات». وقد يشار أحيانًا إلى مظاهرة عفوية أو تصدر وسم معين صفحات الإنترنت بـ«الحركة». وأحيانًا تدعي المنظمات أنها تقود «حركة» لتشير إلى ضخامة عضويتها والتزام أعضائها وداعميها وحماسهم. هنا، يستخدم الناس مصطلح «الحركة» بشكل أساسي للزعم (صوابًا أو خطأ) أنهم يتمتعون بشعبية واسعة وأن داعميهم مخلصون لهم ومنخرطون معهم (رغم أن درجات الإخلاص والانخراط هذه قد تتفاوت بشكل كبير).

للحركات السياسية هيكلية اكثر وضوحاً من الاحتجاجات، وإن كانت تعمل وفقًا لهيكل معين، فإنها تتميز أيضًا بحرية ومرونة أكثر من المنظمات التقليدية.

قبل قرن من الزمان، كانت الحركات السياسية يُنظر لها بشكل مختلف على أنها ظواهر عاطفية. ففي أوائل القرن العشرين كان المنظرون، وعلى الأخص جوستاف لوبون، يدفعون بأن الحركات السياسية هي شكل من أشكال السلوك الجماعي الذي ينشأ في أوقات الانهيار الاجتماعي والثقافي الجسيم، فكانت تعتبر ظواهر تلقائية غير منظمة ولا تقوم على أساس هيكلي معين. وكان يُنظر إلى المشاركين في الحركات السياسية على أنهم أشخاص غير عقلانيين، وأن الحركات السياسية هي فورات لا يمكن التكهن بنتائجها، تحركها حالة من الهياج والهستيريا الجماعية. 

تغير هذا النموذج إلى حد ما في أواخر القرن العشرين، عندما بدأ المنظرون في التفكير في المشاركين بالحركات السياسية باعتبارهم أشخاص عاقلة فاعلة والتأكيد على دور المنظمات الرسمية واضحة الأهداف. وبدأ يُنظر للحركات الاجتماعية كوسيلة عقلانية للسعي لتحقيق أهداف منشودة، لا تختلف في ذلك كثيرًا عن المنظمات الأكثر تقليدية.

وتظهر الدراسة الدقيقة للحركات السياسية أنها لا تتوافق مع أي من النظريات المذكورة أعلاه، فإنها وإن كانت تعمل وفقًا لهيكل معين، فإنها تتميز أيضًا بحرية ومرونة أكثر من المنظمات التقليدية.

لكي يُعتبر العمل الجماهيري حركة، فإنه يحتاج بالطبع إلى دعم ومشاركة شعبية، ولكن يجب أيضًا أن يكون هذا العمل متواصلًا على مدار مدة، وأن يؤدي عدة أدوار لا تقتصر فقط على الاحتجاج. بعبارة أخرى، تختلف الحركات السياسية عن المنظمات التقليدية، ولكنها في الوقت ذاته ليست نوبات فوران عفوية، بل إنها تقع في المنتصف بين الحالتين.

معظم النار من مستصغر الشرر

لا يبدأ النضال من أجل الحرية بتشكيل الناس للحركات السياسية، فعندما يبدأ الناس في التعبير عن مظالمهم، أول ما يخطر لهم هو العثور على علاج لها من خلال العمل مع المؤسسات الرسمية. وعندما تفشل تلك المؤسسات في معالجة تلك المظالم، إما بسبب الفساد أو السيطرة على الدولة أو طبيعة النظام السلطوية، حينها يخرج الناس إلى الشوارع للاحتجاج على تلك المؤسسات وكشف فشلها. ومع ذلك، نادرًا ما يؤدي الاحتجاج إلى حل، لأن المؤسسات التي لم تستجب للنداءات والالتماسات لا تستجيب عادةً إلى الحراك قصير المدى.

وسرعان ما يتضح بعد الحماس المبدئي الذي عادةً ما يصاحب تظاهرات الشوارع الأولى، أن الحراك قصير المدى، مهما بلغ من الضخامة، لن يكون الحل للمشكلة. فهنالك حاجة للنضال طويل المدى؛ يجب أن يتحول الاحتجاج إلى حركة. ومن حين لآخر، يتحول الاحتجاج بالفعل إلى حركة، وهي ظاهرة يدفعها الزخم تتمتع بطاقة الاحتجاج واستمرارية المنظمة.

وتنظم الحركات الاجتماعية تحركات جماعية بالفعل، والتي تنطوي على عنصر عفوي، ولكن غالبًا ما يكون هناك جوانب من التخطيط أيضًا لا يلاحظها المراقب العادي للمشهد. وأحيانًا ما تنقل وسائل الإعلام أخبار المظاهرات الجماهيرية على أنها رد فعل عفوي حركه حدث ما، وليس نتيجة لعمل جاد وهادئ دأبت عليه حركات سياسية لسنوات. فعلى سبيل المثال، أثناء عملي كمتحدث رسمي لحركة «أوتبور» في صربيا، صادفت الكثير من الصحفيين والراصدين للمشهد السياسي وقتها الذين كانوا يصفون الإسقاط السلمي لميلوسيفيتش في عام 2000 بأنه رد فعل تلقائي لمحاولته تزوير الانتخابات. لكن هؤلاء المراقبين لم يلاحظوا الحركة (والتي كنت أنا جزء منها) التي أمضت سنوات في الاستعداد لهذه اللحظة المتوقعة بعينها من الانتخابات.

INSERT PHOTO

لا ينبغي التقليل من أهمية الشرارة، لكن الأحداث الخارجية التي تطلقها، لا يمكنها بمفردها تفسير مستويات الحشد التي تحققها تلك الحركات السياسية، ولا سيما استمراريتها، وهي السمة التي تميزها بوضوح عن الاحتجاجات. فعلى سبيل المثال، أدت تضحية محمد البوعزيزي بنفسه حرقًا في عام 2010، وهو بائع متجول تونسي، إلى إطلاق شرارة ثورة الياسمين التونسية والانتفاضات اللاحقة في العالم العربي. ولكن لم تحدث أي حوادث تضحية بالذات لاحقة –وقد كان هناك الكثير– أي تأثير يقارب في حجمه الثورة التونسية. وبالمثل، كان هناك الكثير من حالات التزوير الإنتخابي في صربيا قبل عام 2000، ولكن تلك الحالات السابقة إما لم تتسبب في رد فعل قوي أو أطلقت احتجاجات لم تحقق أهدافها.

فالأحداث المحركة قد تكون غير متوقعة، مثل انتحار البوعزيزي، وفيضانات السودان في عام 2013 التي أطلقت شرارة سلسلة من الاحتجاجات وأنتجت جيلًا جديدًا من النشطاء الذين فيما بعد قادوا الثورة السودانية بين عامي 2018 و2019. لكن ليست كل الشرارات غير متوقعة، فبعضها يمكن التنبؤ بشكله العام وإن لم يكن بتفاصيله. فعلى سبيل المثال، أثار مقتل جورج فلويد على يد الشرطة احتجاجات حاشدة في جميع أنحاء الولايات المتحدة في عام 2020، ورغم أن تلك الحادثة بعينها لم تكن متوقعة، لأن مثل هذه الجرائم كانت شائعة، ولذلك كان النشطاء المنخرطين بالحركة من أجل حياة السود مستعدين للرد. وفي حالة الانتخابات الصربية لعام 2000، كان النشطاء على علم بكنه الحدث المحرك -حتى تاريخه- وكان بإمكانهم الاستعداد له. وبالتالي، يمكن أن يتسبب الحدث المحرك في احتجاج عفوي، ولكن الحركة تستبق الحدث المحرك بالاستعداد له، وتوظفه للدفع بالحراك إلى الأمام.

القوى الفريدة للحركات السياسية

إن الحركات السياسية ليست مجرد احتجاجات، ولكنها أيضًا تختلف بشكل جذري عن المنظمات الرسمية التقليدية مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني والجمعيات القاعدية.

وقد تبدو بعض الحركات السياسية أكثر رسمية وتتشابه أكثر مع المنظمات التقليدية، ولكن تلك الحركات غالبًا ما تكون قادرة على جذب مشاركة عامة من الجمهور تفوق المنظمات التقليدية. ففي أوائل الثمانينيات على سبيل المثال، كانت حركة «تضامن» البولندية، والتي نجحت في إنهاء الحكم الشيوعي في البلاد، نقابة عمالية رسمية بالأساس، إلا إن حجم عضويتها وصل إلى عشرة ملايين بنهاية عام 1981. ولم يكن هؤلاء المنضمين لحركة «تضامن» في أغلبهم بصدد الانضمام إلى نقابة عمالية، ولكنهم كانوا ينضموا إلى حركة تجمعها هوية مشتركة وأهداف واضحة.

 وعلى نفس المنوال، كانت «الجبهة الديمقراطية المتحدة/ United Democratic Front» التي تأسست في جنوب إفريقيا في الثمانينيات، عبارة عن ائتلاف يضم حوالي 400 مجموعة مدنية، بجانب ألف مجموعة أخرى تنتسب إلي «الجبهة» في جميع أنحاء البلاد. واتسع نطاق التحركات التي تنظمها «الجبهة» ما بين حركات الامتناع عن دفع الإيجارات والاحتجاجات الطلابية والإضرابات العمالية، لدرجة أن شارك في تلك التحركات كثيرين من غير الأعضاء بأي من المؤسسات التابعة لـ«الجبهة». كما في حالة حركة «تضامن»، كانت «الجبهة» في ظاهرها منظمة ذات هيكل واضح، ولكنها أيضًا كانت حركة جماهيرية تم تأسيسها حول ذلك الهيكل بشكل خلق الفرصة لمشاركة أوسع وأكثر عفوية.

وبالتالي يمكننا التفكير في الحركات السياسية على أنها تتفاوت على مقياس يتراوح ما بين العمل الجماعي العفوي بالكامل والمنظمات المهيكلة بالكامل، وذلك لأن الحركات السياسية تنطوي على بعض الخصائص من كلا النموذجين. فمثل التحرك الجماعي العفوي (كالمظاهرات الحاشدة)، تتميز الحركات بالديناميكية والحيوية وسرعة الاستجابة للأحداث الخارجية. ولكن على عكس المظاهرات العفوية، لا يقتصر عمل الحركة على رد الفعل للأحداث الخارجية، بل عليها أيضًا أن تستبقها. ومثل المنظمات، تتمتع الحركات السياسية بقدر من التنظيم يسمح لها بالاستمرارية مع تطور الصراع، كما تتحرك وتخطط بشكل أكثر استراتيجية على أساس أهداف واضحة لا على أساس مظالم ومطالب فقط. كما أن الحركة تطور لذاتها هوية أكثر وضوحًا من المظاهرات العفوية. وعلى عكس المظاهرات التي تستلزم موقعًا محددًا لتجمع الناس كالميادين على سبيل المثال، فإن الحركة يمكنها الوجود حيثما كان هناك أشخاص مستعدون للانضمام إليها. بل إن أعضاء الحركة يمكنهم نقل نشاط حركتهم إلى بلدتهم أو حيهم أو مجتمعهم المحلي.

يمكننا التفكير في الحركات السياسية على أنها تتفاوت على مقياس يتراوح ما بين العمل الجماعي العفوي بالكامل والمنظمات المهيكلة بالكامل، وذلك لأن الحركات السياسية تنطوي على بعض الخصائص من كلا النموذجين.

وتكمن أهمية الحركات السياسية في قدرتها على زيادة حجم المشاركة، وهو الأمر الذي لا تجيده المنظمات التقليدية، بالإضافة إلى قدرتها على العمل الاستراتيجي على مدار فترة طويلة من الزمن، الأمر الذي لا تنجح المظاهرات العفوية في تحقيقه.

وبينما يمكن النظر للحركة باعتبارها هجين ما بين الاحتجاج والمنظمة، فإنها نادرًا ما تبدأ على هذا النحو. ففي بعض الحالات، تتجه المنظمات التقليدية نحو هيكلة أكثر مرونة وتحكم أقل صرامة في التنظيم، في محاولة لجذب مزيد من المشاركة، ولكي تعمل بشكل أقرب للحركة، ولكن هذا أمرًا نادر الحدوث. أما الغالب حدوثه هو أن تتحول المظاهرات العفوية إلى حركات سياسية عند فشل المتظاهرين في تحقيق أهدافهم من خلال تكتيك التظاهر السلمي بمفرده، والتوصل إلى نتيجة مفادها أنه من الضروري اتخاذ منهج أكثر استراتيجية من أجل مواصلة النضال لمدة أطول. وتفشل أغلب التظاهرات في التحول إلى حركات سياسية، ولكن هناك من الأمثلة ما يكفي لإثبات إمكانية النجاح في ذلك بالفعل.

 فإن النضال السياسي عملية عادةً ما تستغرق وقتًا طويلًا، والاحتجاجات لا يطول عمرها بالقدر الكافي. فإن الطاقة تتبدد والزخم يتباطأ وتنتهي لحظة الاحتجاج، ربما بتحقيق أهداف قصيرة المدى، ولكن نادرًا ما تحقق أهدافًا طويلة المدى. وأحيانًا ما ينتهي النشطاء إلى الاستنتاج الخاطئ عندما يصلوا إلى طريق مسدود، فيتخلون عن الاحتجاج كوسيلة للنضال السياسي، ويلجؤون إلى طريق المفاوضات الطويل مع المؤسسات. أو قد ينجرفون في أحلام الصراع المسلح الرومانسية، والتي ستكون أبعد ما يكون عن الرومانسية عندما يستيقظوا منها ليجدوا أنفسهم يقاتلون في الأدغال.

التنظيم كوسيلة تعلم من الأخطاء

تُظهر بعد الأمثلة من تجربتي الخاصة أن لحظات الإحباط في عمل الحركات السياسية ليست فقط حتمية، ولكنها أيضًا اختبارات مهمة للتنظيم ومن ِشأنها أن تخلق حركات أقوى.

في صربيا عام 1996، أمضيت أيامًا متواصلة في مسيرات ومظاهرات للاحتجاج على تزوير الانتخابات المحلية. وقد أحرزت تلك الاحتجاجات بعض الانتصارات المحلية، فنجحت في إبطال محاولة تزوير الانتخابات، ولكنها لم تنجح في التغلب على نظام ميلوسيفيتش. وقد خلف هذا الفشل شعورًا بخيبة الأمل واللامبالاة، لكني وزملائي من المحتجين/ات كان لدينا وقت لإعادة التفكير في أساليبنا. وعلى مدار شهور كثيرة، وضعنا استراتيجيات لتحقيق حراك طويل المدى، وتوصلنا إلى أن المسيرات التي تجوب مدينة بلجراد كانت توجيه خاطئ للطاقة، فلم يكن الجزء الأكبر من المواطنين في البلاد على دراية بصراعنا، فقررنا تغيير مسارنا وأن نحاول إشراك المواطنين بشكل مباشر.

وكانت هذه لحظة ميلاد حركة «أوتبور»، وهي قصة توضح كيف يمكن للحركات السياسية أن تبني على ما لديها. فإن تحركاتنا الأولى لم تنجح في تحقيق هدفنا الأساسي، وهو الإطاحة بميلوسيفيتش، ولكنها مهدت الطريق لجيل جديد من النشطاء متسلحين باستراتيجيات أفضل تمكنت في النهاية من هزيمة ميلوسيفيتش في انتخابات عام 2000.

وفي مدينة كييف عام 2001، فشلت الاحتجاجات الجماهيرية ردًا على القتل الوحشي للصحفي جيورجي غونغادزة في الضغط على الرئيس الأوكراني وقتها ليونيد كوتشما للتنحي، غير أنها نجحت في تنشئة جيل جديد من النشطاء أمضى ثلاث سنوات في بناء حركة منظمة. وفي عام 2004، نجح هؤلاء النشطاء في إطلاق الثورة البرتقالية التي نجحت بدورها في تغيير السلطة، وأحدثت تحولًا في البلاد (غير أن الحدث المعروف بشكل أكبر للمراقب العادي هو ثورة الكرامة التي انطلقت في عام 2014).

INSERT PHOTO

وخلال تعاملي المتكرر مع التنظيميين الأوكرانيين، كانوا يشددون على أن نجاحهم لم يكن فقط نتيجة التعلم من تجربة عام 2001، ولكنه أيضًا كان بسبب الوقت الذي أمضوه بعد فشل التجربة الأولى في تطوير كادر من النشطاء واستراتيجية ركزت على تعبئة الناخبين في جميع أنحاء البلاد. فقد عملوا على تجهيز تلك الأصوات بهدف إبطال تزوير الانتخابات من خلال تنظيم اعتصام في ميدان الاستقلال بكييف، وتم الاستجابة لمطالبتهم بإعادة الانتخابات، والتي انتهت بفوز فيكتور يوشتشينكو بالرئاسة.

إن القاسم المشترك بين هذين البلدين، هو أن الحركة في كل منهما نظمت جزءًا كبيرًا من عملها النضالي خارج الأطر المؤسسية القائمة للتغيير. وبمرور الوقت، طورت بعض الحركات السياسية تحالفات مع عناصر لديها قنوات تواصل مع تلك المؤسسات، وساعدت الحركات على تحقيق التغيير من خلالها. وفي كل من صربيا وأوكرانيا، كان المسار المؤسسي للتصويت عنصرًا بالغ الأهمية، ولكن كان المحرك الأساسي لكلا الصراعين هو حركة المقاومة المدنية، والتي بدونها، كانت سبل التغيير المؤسسي لتفشل، كما سبق وفشلت في الماضي.

بناء المهارات المنهجي

إن الاستعداد للأحداث المحركة يتطلب بعد نظر وتفكيرًا استراتيجيًا، ولكن يجب ألا يقتصر ذلك على قيادة الحركة، فقد يكون ذلك كافيًا في المنظمات التقليدية نظرًا لطبيعتها الهرمية، ولكن يجب أن تعمم تلك السمات كممارسة عبر هيكل الحركة ككل. وبناء المهارات هو الأساس لخلق تلك العقلية؛ العمل اليومي بالحركة هو ما يبني القدرات، والتدريب بإمكانه إسراع عملية التعلم.

كأحد الكوادر القيادية بحركة «أوتبور»، كنت أمضي عدة ساعات كل يوم ثلاثاء في تدريب الأعضاء الجدد، وليس فقط لشرح أهداف الحركة وآليات عملها، ولكن لتدريبهم/هن على مهارات عملية مثل كيفية ضم أعضاء جدد، والتحدث إلى وسائل الإعلام، وتصميم المنشورات. وكان ينتهي التمرين بتطبيق عملي في الشارع، مهما كان صغيرًا، كنوع من التعميد للأعضاء بالتنفيذ على الأرض. وكنت أركز في التدريبات على مهارات عملية تساعد في ترسيخ مفاهيم مثل السلطة وتغير الولاء والمشاركة، فقد كنت أريد للمتدربين/ات أن يكتسبوا/ن عقلية استراتيجية بشكل طبيعي. كان الأعضاء يغادرون/ن التدريب وهم/ن يشعرون/ن أنهم/ن جزء من كيان لديه إجماع على كل من الغايات والوسائل المتبعة لتحقيقها، وهو أمر بالغ الأهمية لبناء حركة متماسكة2.

كانت تلك التجربة حجر الأساس لعملي اللاحق مع الحركات المعارضة حول العالم، فكنت أتمسك بالتدريب التفاعلي لبناء المهارات، مع التركيز على التعليم من خلال الممارسة. في اعتقادي، يجب على قادة الحركة أن يكونوا معلمين أيضًا، وليس فقط مدربين لديهم كل أشكال المعرفة التي ينقلوها إلى أتباعهم، بل عليهم أن يكونوا مساعدين في خلق تجارب تعلم جماعية يمكن للنشطاء والمنظمين من خلالها أن يمارسوا مهاراتهم الاستراتيجية ويطوروها ويصقلوها ويوظفوها.

كانت تلك التجربة حجر الأساس لعملي اللاحق مع الحركات المعارضة حول العالم، فكنت أتمسك بالتدريب التفاعلي لبناء المهارات، مع التركيز على التعليم من خلال الممارسة.

وبناء المهارات هي عملية يمكنها أن تحدث عبر الحركات السياسية. فقد كان نجاح حركة «أوتبور» في عام 2000 قد تحقق باستلهام حركة الطلاب السلوفاكيين الذين نظموا حملة ناجحة للدعوة إلى المشاركة بالانتخابات في عام 1998 والتعلم منها. وفي وقت لاحق، ألهمت حركة «أوتبور» وساعدت النشطاء الأوكرانيين للاستعداد لانتخابات عام 2004، وهي التجربة التي أعدتهم لقيادة الثورة البرتقالية.

هناك أساليب مختلفة يمكن اتباعها في التدريب، وقد كنت أحاول في عملي أن أتوصل إلى نقاط الضغط التي بإمكانها تحقيق أكبر فائدة بأقل قدر من الجهد والموارد. وعندما كنت أعمل مديرًا لدعم الحركات السياسية في منظمة «رايز/ Rhize»، وهي منظمة غير ربحية تعمل في تدريب منظمي الحركات، قمت بتجربة نموذج تدريبي يتمحور حول ورشة عمل تطبيقية ليوم واحد في بناء الحركات باسم «تدريبات التعرض الأول/ First Exposure Trainings». كانت تلك التدريبات تهدف إلى تسليح المجتمعات بمهارات عملية للتنظيم والحشد، وأن تخلق إطارًا يمكن من خلاله أن يبدؤوا في التخطيط، بشكل تكتيكي في البداية، ثم بشكل أكثر استراتيجية لاحقًا. كان المدربون/ات يضعون خريطة لتحديد قادة المجتمعات، ويجتمعون بهم من أجل المساعدة في خلق نواة لحركة مستقبلية. وحاليًا في المركز الدولي للنزاع السلمي، أجرب نموذجًا مختلفًا بعض الشيء يسمى «تدريب قائمة الحرية/ Checklist Exercise for Freedom»، وهو عبارة عن جلسة عصف ذهني تفاعلي تساعد أعضاء حركات المعارضة في خضم نضالهم/ن على تقييم مدى تقدمهم/ن من خلال عملية تتكون من ثلاث خطوات وهي؛ التقييم الذاتي، والابتكار، والالتزام بالأفكار التي خرجت من الخطوة السابقة3.

 أنا أري أن بناء المهارات من أجل تطوير عقليات استراتيجية هو أمر أساسي في الحركات السياسية من أجل القدرة على التنظيم من خلال الهيكل الذي يميزها، على العكس من المنظمات التقليدية (التي يقيدها هيكلها الهرمي) والاحتجاجات العفوية (والتي بدون أي هيكلة لا يمكنها ضمان مشاركة مستمرة). إن الحركات السياسية تتميز بهيكل أفقي وليس رأسي، وهو ما يجعل الثقافة والمهارات المشتركة عبر الحركة أمرًا أساسيًا، لأنها تخلق اجتماعًا حول الأهداف والأساليب، وتساعد الحركات السياسية في أن تكون أكثر مرونة في مواجهة التهديد والترهيب والقمع.

تحويل الاحتجاجات إلى حركات سياسية

ماذا يمكننا أن نفعل لدعم احتجاج على وشك التحول إلى حركة؟ من الواضح إننا لا يمكننا بناء حركات سياسية بنفس الطريقة المباشرة التي تؤسس بها المنظمات التقليدية، فإن العفوية والارتجال مكونان أساسيًان في الحركات السياسية، ولكن هذا لا يعني أنه ليس علينا سوى أن نقف مكتوفي الأيدي، فهناك أشياء يمكننا القيام بها من أجل زيادة احتمالية تطور الاحتجاج إلى حركة.

إن صياغة المظالم هو أمر لا غنى عنه خلال مراحل تكوين الحركة وقبل انطلاقها، لأن وجود مشكلة ما والمصاعب التي تنتج عنها، بالإضافة إلى فشل المؤسسات في معالجتها، لا يؤدوا من تلقاء أنفسهم إلى تكون حركة. فيكون من الضروري حينها أن تصاغ تلك المظالم، وأن يُكشف الفشل المؤسسي سواء من خلال تقارير أو إفادات من المبلغين عن المخالفات، وأن يتم إعلاء أصوات الناس المتأثرين بذلك الظلم. ولا تكفي صياغة المظالم بمفردها لتكوين حركات سياسية، ولكنها تهيأ أرضًا خصبة لنشوئها.

وهناك شرط آخر لنشوء الحركة وهو تكوين الهياكل التي من شأنها أن تضم مجموعات مختلفة، وتعزز التفاعل بين أفراد الحركة، وتسهل صعود قيادات شعبية داخلها. ولا يكفي بناء تلك الهياكل بمفرده في تكون حركة بشكل مباشر، ولا حتى ائتلاف، ولكنه يخلق مساحة لمجموعات متنوعة من النشطاء للتفاعل وحل الخلافات والنقاش حول استراتيجية الحركة وتكوين هوية مشتركة. وهذا عنصر حاسم في استمرارية الحركة، ففي الائتلافات، يمثل الأشخاص المنظمات المكونة للائتلاف، أما في الحركة، يمثل الأشخاص الحركة بأهدافها وآلياتها وقيمها داخل تلك المنظمات. ويكون ولاؤهم للحركة هو ما يبقيهم داخل الحركة برغم اختلافاتهم.

وأخيرًا، على الحركات السياسية إتقان أساليب المقاومة المدنية، وأن يتسلحوا بتكتيكات مثل الإضرابات وحملات المقاطعة والتدخل السلمي. وعندما تُنفذ تلك التحركات بشكل جيد، فإنها تؤدي لحدوث انشقاقات عن المؤسسات والمنظمات التي تدعم استمرار الوضع الراهن، وبالتالي فإنها تضعف الركائز الداعمة للأنظمة التي تسعى الحركات السياسية للتصدي لها، فهي بذلك تخلخل السلطة بتبديل الولاءات. إن المهارات المطلوبة لممارسة المقاومة المدنية، مثل الحفاظ على الالتزام بالسلمية والقدرة على التخطيط الاستراتيجي، هي مهارات تبنى بمرور الوقت. 

وحسب المقولة المعروفة، التميز ليس فعلًا نقوم به، بل عادة نمارسها. فإن الاستراتيجية الناجحة ليست تلك التي تنتج عن عبقرية تخطيطية، ولكنها تنتج عن العديد من الاجتماعات وجلسات تبادل الأفكار والتفاعل بين النشطاء والتنظيميين.

وتتطلب كل تلك الأنشطة إطارًا مؤسسيًا، سواء كان ذلك داخل الحركة أو خارجها. وتوفر تلك المؤسسات منصات للمبلغين عن المخالفات لكشف الفشل المؤسسي ونشر التقارير واستضافة الاجتماعات وإجراء التدريبات. وبالمقابل، تتطلب تلك الأنشطة جهات فاعلة تدعم نشوء الحركة، بجانب النشطاء والتنظيميين القاعديين الذين سوف يؤسسون الحركة ويقودونها فيما بعد. وتلك المؤسسات ويمكن أن تكون الجهات الفاعلة عابرة للحدود. ومن الأمثلة على تلك الجهات «شبكة التدريب الإفريقية/ African Coaching Network»، والتي عملت معها سابقًا في تنمية المهارات للنشطاء. وتعمل تلك المنظمة من خلال التربيط عبر القارة لتعزيز فرص التعلم، حيث تتعلم الحركات السياسية المتصلة بالشبكة من بعضها البعض من خلال مدربين شبكة المنخرطين/ات بالحركات السياسية في بلدانهم.

إن الجمع بين كل تلك الأنشطة المذكورة أعلاه؛ صياغة المظالم، وبناء الهياكل والمهارات، لا يكون حركة بشكل تلقائي، ولكنها خطوات تسهل من نشوء الحركة. إنها مهمة أشبه بالزراعة؛ إننا لا ننبت الخضراوات، بل إنها تنبت بنفسها، ولكننا نرويها ونزيل الأعشاب الضارة ونتأكد من خصوبة التربة.

إن العالم في أزمة، وعندما ننظر إلى المشهد الحالي في أوكرانيا، سيمكننا رؤية العلاقة بين الحرب والدكتاتورية بوضوح. سيكون على العالم مواجهة عواقب الغزو الروسي، ولكن يجب علينا أيضًا التفكير في الأسباب الجذرية للصراع ومعالجتها. كما علينا أن نعالج مشكلة صعود السلطوية، ليس فقط بهدف التحول الديمقراطي، ولكن من أجل تحقيق الاستقرار أيضًا. ويرى الكثير من المراقبين أن الاشتباك مع ديكتاتوريين مثل فلاديمير بوتين لن يزدهم إلا غرورًا وجرأة. بينما يتخوف البعض الآخر من أن المقاومة والرد العسكري قد يؤديان إلى تصعيد الصراع مع قوة نووية، يكون الخروج من تلك الثنائية بتوسيع ساحة المعركة والاعتماد على الحركات السياسية السلمية الشعبية.

 لقد نشأت في أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينيات وكنت شاهدًا على فترة تداعت فيها السلطوية. هل تتذكر/ين الصاروخ البالستي العابر للقارات الذي أصاب جدار برلين وأسقطه؟ ولا أنا أيضًا. فإن الجدار لم يسقط بفعل قذيفة، ولكن بمطرقة يحملها مواطن من برلين الشرقية. في المواجهة الحالية بين الديمقراطية والسلطوية، هناك حصان أسود؛ قوة سياسية يمكن أن تكون حاسمة في تحديد النتيجة، وهي الحركات السياسية واسعة الشعبية التي تستخدم وسائل المقاومة المدنية من أجل نقل السلطة في بلدانها من أيدي الحكام السلطويين، لتحقيق الحرية والديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

 كتابة:

إيفان ماروفيتش، مدرس وتنظيمي صربي وأحد قيادات حركة «أوتبور/ Otpor»، والتي تمثل حركة مقاومة سلمية كان لها دورًا محوريًا في إسقاط سلوبودان ميلوسيفيتش. يشغل ماروفيتش حاليًا منصب مدير التعليم الميداني بالمركز الدولي للنزاع السلمي في واشنطن.

Notes

  1. كانت الباحثتان تهدفان إلى فهم ما إذا كانت المقاومة المدنية بإمكانها النجاح في ظل ظروف بالغة الصعوبة، فاقتصرت الدراسة على الحملات التي كانت تعمل على تحقيق أهداف قصوى، مثل تغيير الحكومة أو الانفصال الإقليمي أو انسحاب محتل أجنبي.
  2. استلهمت تلك الفكرة من كتاب تينا روزنبرغ «Join the Club» من إصدار (New York: W. W. Norton, 2011).
  3. يستند هذا الأسلوب إلى كتاب بيتر أكرمان «The Checklist to End Tyranny» من إصدار المركز الدولي للنزاع السلمي، واشنطن العاصمة، 2011، والذي يستلهم بدوره كتاب أتول غواندي «Checklist Manifesto» من إصدار (Delhi: Penguin Books India, 2010).