ما يلي هو ترجمة بالتعاون مع «مدى مصر» لنسخة مختصرة من نقاش مائدة مستديرة ضمن مشروع  «النَزَعات العابرة للحدود الوطنية في المواطنة: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، لمؤسسة القرن الدولي/ the century foundation.بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.


غالبًا ما لا يؤخَذ الجندر والجنسانية في الاعتبار في النقاشات حول العلاقات بين الدولة والمواطن، فيما تركز النقاشات حول الجنسانية غالبًا على المثلية الجنسية والجنسانيات الكويرية فقط، من خلال أطر أسئلة التمثيل، والهوية، والظهور، والأصالة. تجادل الباحثتان مايا مكداشي، التي تركز أبحاثها على لبنان، وكارما آر تشافيز، التي تركز أبحاثها على الولايات المتحدة، على ضرورة التفكير في الجنسانيات المغايرة والكويرية معًا، وأن استخدام عدسة الجنسانية يعمق فهمنا للسيرورات العالمية وسلطة الدولة وكيف تُحَقَق المواطنة أو تؤَمَن.

في التحليلات الأكاديمية، بينما يُؤَطَر لبنان غالبًا كحالة استثنائية ومتطرفة -كقصة تحذيرية، يؤطِر البحث الأكاديمي الولايات المتحدة غالبًا باعتبارها استثنائية: إما أنها دولة يُتَطَلَع إليها، أو تُقبل بصمت كمرجعية للتحليل العالمي. تجادل المشاركتان في الحوار بأن التحليل يجب أن يتغلب على الاستثنائية من أجل فهمٍ أفضل للطريقة التي تستخدم بها الدول الجنسانية والجندر لتأمين سلطتها.

تمثل  النقاشات في هذا الحوار آراء المشاركتين فيها ولا تعكس موقف مؤسسة القرن/ the century foundation.


كرمة آر تشافيز: من الأشياء التي أعود إليها كثيرًا في عملك هو إصرارك على رفض تشعيب الجنس والجنسانية والجندر من العرق والاقتصاد والاستعمار الاستيطاني. هذا الأمر لا يحتاج للتفكير -إنها التقاطعية! لكنك تعيدينا باستمرار إلى حقيقة أن تعريف الدولة والمواطن يُنتَج من خلال الاختلاف الجنسي، والطريقة التي يُفرَض بها الاختلاف الجنسي تتداخل دائمًا وبشكل متواصل مع السياسي والاقتصادي.

مايا مكداشي: عملي الأخير حول «الجنسانية والطائفية» -وهو مصطلح ظهر من بحثي في ​​لبنان- يشير إلى أن الاختلاف الجنسي وتنظيمه هما مفتاح للسلطة والسيادة العلمانية، كما أنهما مفتاحًا لإنتاج العلمانية وتداولها كمجموعة من القيم ومن الممارسات الطموحة، وكتراتبية للحداثة. تنشأ مقاربتي جزئيًا بسبب الإحباط، حيثُ عادةً ما يتعامل العمل في دراسات الجنسانية مع الغيرية الجنسية وكأنها فئة خاوية، بينما تُعامل الجنسانيات الكويرية باعتبارها فئات متميزة. من ناحية أخرى، فإن الكثير من العمل النقدي حول سلطة الدولة والمواطنة والعلمانية والطائفية لا يأخذ الجنسانية في الاعتبار -على الرغم من أن هذه القضايا ترتكز في مجملها على أنظمة القرابة البيروقراطية القائمة على غيرية الميل جنسي، وعلى خطابات الاختلاف الجنسي والسياسي.

لتوضيح نقطة أساسية: في لبنان، تُعتَبَر الطائفة فئة موروثة أبويًا. في نظر الدولة، طائفتك ليست ما تنسب نفسك إليه، أو ما تؤمن به، أو ما لا تنتمي إليه. بدلًا من ذلك، فإن المعيار الذي تستخدمه الدول لتحديد أعضاء الطوائف المختلفة بسيط -ما هي طائفة والدك؟ معظم العمل النقدي حول الطائفية يتعامل بشكل عابر مع حقيقة أن الطائفة هي موروث أبوي، كما لو كان من الممكن أو من المفترض فصل ذلك عن تنظيرنا. ومع ذلك، إذا أردنا أخذ بنية السلطة وتاريخها وتجربتها على محمل الجد، لا أعتقد أن بإمكاننا تنحية هذه الحقيقة جانبًا. لا يوجد تموقع لذات طائفية متماسكة وغير متعلقة بالجندر. بدلًا من ذلك، تُشَكَل «الطائفة» بيروقراطيًا وقانونيًا وتُمَارَس عند نقاط الانعطاف المُجنَسة.

معظم العمل النقدي حول الطائفية يتعامل بشكل عابر مع حقيقة أن الطائفة هي موروث أبوي.

في كتابي «الجنسانية والطائفية/ Sextarianism1»، أزعم أن كلتا الجنسانيتين، الكويرية والمغايرة، بالإضافة إلى الاختلاف الطائفي والسياسي، تُنتَجان وتُنظمان ويُضفى الطابع الأمني ​​عليهما من خلال استخدام الدولة للاختلاف الجنسي كناقلة للسلطة. يوظف هذا الإطار، بطرق متعددة، النظريات النسوية الكويرية لإعادة التفكير في مشاريع الميل المغاير جنسيًا، والمُغايرة الجنسية المُطَبَعة، والعلمانية، والمواطنة. أعني بالاختلاف الجنسي الحلقة المفرغة حيثُ يغذي الجندر والجنسانية بعضهما البعض -بين مشاريع صناعة وإصلاح وإدارة فروقات الجندر والجنسانيات المختلفة.

الاستثنائية

تشافيز: قُلتِ إن لبنان ليس استثنائيًا ولكنه نموذجي. هل يمكنك الاستفاضة في هذه النقطة؟

مكداشي: عندما توسم مناطق ودول وشعوب معينة ومواقع جيوسياسية مختلفة بالـ«استثنائية»، فإن المصطلح ينطوي على نوع ما من الحدود، وعلى نقطة توقف، وعلى حاجز معرفي. إنه يخلق تشبعًا بالخصوصية التاريخية التي تجعل هذا المكان أو ذاك غير قادر على أن يكون جزءًا من سردية كبرى عن العالم بأسره. لا أعتقد أنه من قبيل الصدفة أن معظم المواقع الجيوسياسية «الاستثنائية» إما مستعمرة (كما في حالة فلسطين) أو في ما بعد الاستعمار (كما في حالة لبنان). على سبيل المثال، أُطِر احتلال فلسطين على أنه استثنائي بالمقارنة مع أي نظام تفوق استعماري آخر -حتى الإصرار الفلسطيني على الحرية والمساواة أُطِر على أنه استثنائي بالنسبة للمبدأ العام بأن الشعوب يجب أن تكون حرة ومتساوية، وأن لها الحق في ألا تُحتَل. يُعتَبَر لبنان استثنائيًا، حتى في الأدبيات المتعلقة بالشرق الأوسط (الذي هو نفسه مؤَطَر باعتباره استثنائيًا، أو خارج التاريخ، في سياق نقد إدوارد سعيد). يُنَاقش لبنان وكأنه هذا المكان الغريب الصغير المعقد، الذي يحتوي على الكثير من القوانين والهويات والأديان والأنظمة والحروب والتواريخ. بالطبع، بمجرد تأطيره بهذه الطريقة، يمكن للبنان أن يعلمنا فقط عن نفسه -أي لا يمكنه أن يخبرنا بشيء عالمي. (للسجل، أنا لست من محبي السرديات التعميمية).

من ناحية أخرى، هناك طرق يكون بها لبنان نموذجًا. تعتبر تلك الدولة مثالًا من حيث كيفية ربطها للهويتين السياسية والجنسية معًا، وكيفية إنتاجها للاختلاف وتنظيمه كنَسَق لسلطة الدولة العلمانية وسيادتها. ولبنان له موقع مثالي للتفكير في العلاقة بين الهوية السياسية والجنسية (حجر زاوية في الفكر السياسي النسوي)، لأن هذه العلاقة متعاظمة وواضحة في القانون والبيروقراطية والخطاب.

لقد ولدت ونشأت في لبنان، ومن المثير للاهتمام أن أفكر في الطريقة التي تربيت بها على التفكير في لبنان كقصة تحذيرية -أي كمكان يمكنه دائمًا أن يكون [أفضل حالًا مما هو عليه]، لو استطاع فقط استجماع قواه والبدء في السلوك مثل البلدان «الطبيعية». 

تشافيز: نعم، يُنظر إلى لبنان على أنه استثنائي بمعنى أنه حكاية مُنذِرة أو تحذيرية. هناك طريقة أخرى لتعريف الاستثنائية أيضًا. لقد جئت من الولايات المتحدة، حيث ولدنا وتربينا على حقيقة الاستثنائية الأمريكية وعلى الوعد بها. لكن الطرق، التي قد تكون بها الولايات المتحدة استثنائية في الواقع، تتعارض بالطبع مع ما تحمله فكرة «استثنائية الولايات المتحدة» كأسطورة للسيطرة.

ما تفتقر إليه النقاشات المشتركة بين كل من لبنان والولايات المتحدة، من حيث كونهما نموذجان، هو تحليل السلطة. ما هي الطرق التي يمكن من خلالها اعتبار كيان ما نموذجيًا؟ وفي المقابل، ما هي القوى التي قد تمنع التفكير في كيان ما على أنه نموذجيًا؟

مكداشي: لطالما وجدت أنه من المثير للاهتمام كيفية استخدام الاستثنائية بطرق متعددة ومتناقضة اعتمادًا على الموقع الجيوسياسي والسياق التاريخي اللذان يُناقشان. الاستثنائية الأمريكية، على عكس استثنائية لبنان، يُقصد بها، كما تقولين، «أسطورة للسيطرة»، وفي رأيي يتعلق ذلك إلى حد كبير بالسلطة. لذلك، بينما تُظَلِل استثنائية الولايات المتحدة الأمريكية فرادتها واستحالة تكرارها، فإنها تظلل أيضًا تأثيرًا طموحًا -حيثُ يجب على المرء أن يريد أو يرغب في أو يعمل على تكرار هذه التجربة. أعتقد أن الاستثنائية الأمريكية يُعاد إنتاجها من خلال تفريغها من الخصوصية التاريخية في العمل الأكاديمي الموجود في الأكاديميا الأمريكية والقادم منها. هنا، تنطوي الاستثنائية الأمريكية على القدرة على التحرر من عبء التاريخ -بحيث تفرغ من الخصوصية التاريخية أو من الاقتصاد السياسي للموقع، وما يجعل هذا ممكنًا هو المنطق المتوحش وممارسة الإمبراطورية.

لنتناول عناوين الكتب الأكاديمية. من النادر أن يحمل كتاب في الدراسات الكويرية أو النسوية أو في دراسات الجندر (أو أي كتاب «نظري» بشكل عام)، حيثُ البحث في الولايات المتحدة يكون ركيزته، عنوانًا ينتهي بعبارة «في الولايات المتحدة». بدلًا من ذلك، لا يحمل العنوان موقعًا، وفي بعض الحالات، تكون الكتابة نفسها كذلك، كما لو أن البحث الذي يُجرى في الولايات المتحدة يجب أن يتحدث باسم العالم. تُعامل الولايات المتحدة كمكان نموذجي يمكن من خلاله اشتقاق أو إنتاج سرديات (أو نظريات) عامة أو تعميمية في ما تتناوله.

تُعامل الولايات المتحدة كمكان نموذجي يمكن من خلاله اشتقاق أو إنتاج سرديات (أو نظريات) عامة أو تعميمية في ما تتناوله.

كرمة، كيف ترين العلاقة بين الإمبراطورية والاستعمار والاستثنائية؟ لقد تعلمت الكثير خلال الأشهر الماضية في محادثاتنا مع أقراننا من مواقع وتموقعات جيوسياسية مختلفة -ووجدت أنه من المنعش وضع الولايات المتحدة في موقع واحد من بين العديد من المواقع. كلانا يعمل في أقسام جامعة بين عدة تخصصات- كيف تبدو استثنائية مواقعنا المتعددة من وجهة نظرك؟

تشافيز: نشأت الدراسات العرقية ودراسات الجندر والجنسانية في الجامعات الأمريكية بالولايات المتحدة بنفس الوقت تقريبًا، استجابةً لمطالب الحركات السياسية في الستينيات. (أنا أستخدم «الدراسات العرقية» اختصارًا منقوصًا لتمييز التكوينات الفكرية متعددة التخصصات لدراسات الأمريكيين الآسيويين واللاتينيين والسود والأمريكيين الأصليين). أصول هذه التخصصات هم النشطاء، كما ترتبط بالدولة القومية الأمريكية، إلى حد ما على الأقل. لكن هذه النقطة الأخيرة، حول الدولة القومية، تصح فقط على مدى معين، حيث إن الأشخاص الذين ناضلوا من أجل تطوير الدراسات العرقية عاشوا على الأرض التي نسميها بالولايات المتحدة، ورفعوا مطالبهم من جامعات مقرها الولايات المتحدة، وتوجد في المجتمعات التي يعيشون فيها، وركزت العديد من انتقاداتهم حول كيانات الدولة الأمريكية (الشرطة والجيش والمسؤولين المنتخبين). الأفضل من بين هذه الحركات السياسية، كانت عابرة للحدود منذ البداية، في عضويتها و في تحليلها على حدِ سواء. لكن غالبًا ما كان على المؤسسات التي تضم برامج الدراسات العرقية أن تكون قصدية بحق حول الطريقة التي سيؤطر بها المشروع الفكري. هذا هو الحال خاصةً في ما يتعلق بـ«دراسات المنطقة/ area studies»، التي نشأت في الجامعات الأمريكية، غير منبثقة من مطالب النشطاء، ولكن من المصالح الخارجية للحكومة الأمريكية.

أثير ذلك لأن أحد الأشياء التي أفكر بها غالبًا كرئيسة لقسم الدراسات اللاتينية في إحدى جامعات الولايات المتحدة، مع أحد أشهر معاهد دراسات أمريكا اللاتينية (الممول جيدًا) في العالم، هو كيفية الحفاظ على بنود ميزانيتي بدون مركزة الولايات المتحدة بشكل واضح. على سبيل المثال، اتباعًا للأنثروبولوجي خوسيه ليمون، غالبًا ما نتحدث عن جنوب غرب الولايات المتحدة باعتبارها «المكسيك الكبرى»، مما يعني أن المنطقة لم تكن فقط جزءًا من الدولة المكسيكية، ولكن ثقافيًا هناك طرق يتشابه بها هذا الجزء من العالم مع المكسيك أكثر من الولايات المتحدة. ولكن أين يقع إذن الخط الفاصل في التخصص بين دراسات الأمريكيين اللاتينيين والدراسات اللاتينية؟ تستمر الدراسات اللاتينية في الولايات المتحدة  في الاشتباك مع علاقة هذه التخصصات بالأرض والأصل: كثير من اللاتينيين المولودين في الولايات المتحدة مُغَربون عن تراثهم الأصلي. كثير من الوافدين حديثًا من مهاجري أمريكا اللاتينية هم من السكان الأصليين (وبسبب هجرتهم، أصبحوا مستوطنين). تشتبك الدراسات اللاتينية في الولايات المتحدة أيضًا مع علاقتها بالسواد، من حيثُ تكوين فكرة عن عرق المستيزا أو المستيزو أو المستيزكس في علاقته بالعبودية العابرة للحدود. كيف يمكننا القيام بالعمل الذي نحتاج إلى فعله عندما يكون التخصص مدينًا بالفضل للدولة القومية الأمريكية؟

أخشى أن أكون قد شردت عن موضوعنا هنا، وربما يكون ذلك نتيجة للقلق الذي أشعر به كمديرة لهذا القسم. لكنني أعتقد أنه، حتى عندما وجدت العمل في قسم متعدد التخصصات أمرًا محررًا، فلقد وجدته خانقًا أيضًا، للأسباب التي وصفتها للتو. لذا، فإن قضاء هذا الوقت معًا في نقاش الجندر والجنسانية، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة هي سياق واحد من بين سياقات عدة، كان أمرًا رائعًا بحق.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة:

مايا مكداشي، أستاذة مساعدة في قسم دراسات النساء والجندر والجنسانية، ومحاضرة في برنامج دراسات الشرق الأوسط بجامعة روتجرز. وهي محررة ومؤسِسَة مُشارِكة في «جدلية»، ومؤلفة كتاب «الجنسانية والطائفية: السيادة والعلمانية والدولة في لبنان».

كارما آر تشافيز، رئيسة وأستاذة مشارِكة في قسم الدراسات المكسيكية الأمريكية واللاتينية بجامعة تكساس في أوستن. @queermigrations

Notes

  1. مايا مكداشي، «الجنسانية والطائفية: السيادة والعلمانية والدولة في لبنان/ Sextarianism: Sovereignty, Secularism, and the State in Lebanon»، (ستانفورد، كاليفورنيا: مطبعة جامعة ستانفورد، 2022)