في عام 2021 هَزم التيارُ الصدريُّ في العراق جميعَ المنافسين في صناديق الاقتراع، إسلامويين شيعة وغير إسلامويين على حدٍّ سواء، ويكمن سر نجاح التيار الصدري في استخدامه تكتيكاتٍ انتخابيةً متطورةً ومعقدةً، واستيلائه على الشبكات الاستراتيجية في الدولة والمجتمع المدني، ونفوذِ وشخصيةِ زعيمه؛ رَجلِ الدين الشيعي مقتدى الصدر.


هيمنت الأحزاب الإسلاموية الشيعية على السياسات الانتخابية في العراق بعد عام 2003، واستحوذت على حصةٍ مسيطرةٍ من النظام السياسي في البلاد، ومن بين هذه الفصائل يبدو التيار الصدري – بقيادة رجل الدين مقتدى الصدر – بارعاً في تعبئة قاعدةٍ انتخابيةٍ والحفاظ عليها على مدى عدة دوراتٍ انتخابيةٍ، وقد ظهَرَ التيار الصدري كأكبر حزبٍ في انتخابات أكتوبر / تشرين الأول 2021 في العراق، إذ حصَدَ الصدريون في البصرة عام 2021 من المقاعد ما يفوق ما حصل عليه جميع منافسي التيار من الإسلامويين الشيعة مجتمعين (أي الأحزاب السياسية في الإطار التنسيقي الشيعي). يتناقض ذلك مع التوجهات السائدة في المنطقة، فبالرغم مما يسمى بـ “التفوق الانتخابي الإسلاموي”، فشل الإسلاميون في كثيرٍ من الأحيان في الحفاظ على الشعبية الانتخابية، أو ترجمة النجاح الانتخابي الأولي إلى هيمنةٍ سياسيةٍ دائمةٍ.

وفي الوقت نفسه يبدو أننا نشهد انحساراً في نفوذ الإسلام السياسي، والذي يعرَّف عادةً بأنه شكلٌ من أشكال النشاط السياسي الذي يؤكد ويروِّج “للمعتقدات أو الوصفات أو القوانين أو السياسات التي تُعد ذات طابعٍ إسلاميٍّ”. على سبيل المثال يرى فنار حداد أن “السياسة الشيعية” فقدت كثيراً من أهميتها التحليلية في تفسير المشهد السياسي في العراق، سواءً كان ذلك المشهد شيعياً أو غير ذلك. في الواقع، فإن الإسلام، وحتى الأيديولوجية الإسلاموية، قد هُمش في سياسات الجماعات الإسلاموية الشيعية اسمياً في العراق، إذ غدت هذه الأحزاب مستقلةً على نحوٍ متزايدٍ عن القيادة الدينية – الكهنوتية، وراحت تُظهر براغماتيةً واضحةً في تحالفاتها السياسية مع الجماعات الإسلاموية وغير الإسلاموية على حدٍّ سواء، وبالكاد تشير برامجها الانتخابية إلى الأيديولوجية الإسلاموية. وبالرغم من هيمنتهم السياسية الطويلة، لم يسْع الإسلامويون الشيعة في العراق إلى إقامة دولةٍ إسلاميةٍ أو فرض الشريعة الإسلامية. وحيث تتجلى العناصر الإسلاموية سياسياً، فإنها تخدم كواجهةٍ سطحيةٍ ليس إلا، مما يثير السؤال: ما هو الإسلاموي في الإسلامويين الشيعة في العراق؟ ومن الأمثلة على ذلك، في عام 2016 أصدر البرلمان العراقي قانوناً يحظر تصنيع وبيع الخمور “للحفاظ على هوية العراق كدولةٍ مسلمةٍ”، وفقاً لعضوٍ إسلامويٍّ شيعيٍّ في البرلمان، غير أن القانون لم يُطبَّق قطُّ، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الإسلامويين أنفسَهم هم المستفيدون الماليون الرئيسون من تجارة الخمور في العراق.

هنا أيضاً غالباً ما يمثل الصدريون استثناءً للتوجهات السائدة الأوسع. يحتفظ التيار بروابطَ قويةٍ بدوائر الدين والكهنوت والسياسة، فالجهاز السياسي الرسمي للتيار الصدري تابعٌ إلى حدٍّ كبيرٍ لقيادة التيار الدينية. ولما ابتعد الإسلامويون الآخرون عن الأشكال التقليدية للأيديولوجية السياسية الإسلاموية بحثاً عن مصادرَ بديلةٍ للشرعية والجاذبية الانتخابية، أكد الصدريون جاذبيتهم الدينية، وطوروا ميزتهم الخاصة من الأيديولوجية الإسلاموية: أيديولوجية أساسها الجاذبية الشخصية (أو الكاريزما) التي يتمتع بها مقتدى الصدر.

صون القاعدة

كيف يمكن تفسير هذا الاستثناء الصدري؟ من المعروف جيداً أن الصدريين يستفيدون انتخابياً من قاعدةٍ اجتماعيةٍ كبيرةٍ، غير أن كيفية الحفاظ على ولاء هذه القاعدة، وكيفية استثمارها سياسياً لم يُفهم بعد. يعكس ذلك جزئياً تركيزَ المحللين على الجوانب المسلحة والمتشددة للتيار الصدري على حساب القاعدة الصدرية وأتباع الحركة “العاديين” والجوانب اليومية داخل التيار، ولذا يميل التصوير التقليدي للتيار إلى إبراز طبيعته المجزأة، وافتقاره إلى التماسك والانضباط الداخليين؛ لكن تحويل الانتباه إلى الصدريين كظاهرةٍ انتخابيةٍ يقلب هذه الصورة، ثم يصبح اللغزُ شرحَ الصمود والتماسك اللافت للقاعدة الانتخابية الصدرية بالرغم من الانقسامات المتعددة في الهياكل الدينية وشبه العسكرية في التيار.

تميل الأبحاث السابقة التي تشرح التفوق الإسلاموي الانتخابي وهشاشته إلى التأكيد على سمعة الإسلامويين بأنهم “غرباء سياسيون”، وسمعتهم في الحُكم الفعال، بالإضافة إلى تقديمهم خدماتٍ غيرَ حكوميةٍ، وقدرتهم على تعبئة المؤسسات والشبكات الدينية، وهيمنة فكرهم وهويتهم الإسلاموية على المستوى المجتمعي؛ غير أن هذه العوامل وحدها لا تفسر كلياً القوة الانتخابية للتيار الصدري. والأهم من ذلك هو سيطرة الصدريين على الشبكات الاستراتيجية داخل الدولة والمجتمع المدني، جنباً إلى جنبٍ مع أسلوب الصدر الخاص في النفوذ الذي يعتمد على الكاريزما الشخصية، الأمر الذي يمنح الصدريين مزيجاً فريداً من الموارد. إن الطريقة التي تُستخدم بها هذه الموارد ضمن استراتيجيةٍ انتخابيةٍ متطورةٍ ومعقدةٍ تفسر النجاحَ الانتخابي الاستثنائي للتيار الصدري مقارنةً بالأحزاب غير الإسلاموية والجماعات الإسلاموية الشيعية الأخرى.

قمتُ ببحث حول  السياسة الانتخابية للتيار الصدري في البصرة خلال انتخابات تشرين الأول / أكتوبر 2021، بما في ذلك العشرات من المقابلات وتحليل مواد الحملات الانتخابية، هادفاً من وراء ذلك إلى تفسير أسباب تفوُّق التيار الصدري على خصومه الإسلامويين وغير الإسلامويين في الحفاظ على النجاح الانتخابي والنفوذ السياسي على المدى الطويل. وقد حددتُ نقاط الضعف المحتملة في الآلة الانتخابية للصدريين. يتناول التقرير في النهاية ما إذا كانت مصادر القوة الانتخابية للتيار الصدري تتعلق بالسمات الدينية والإسلاموية للتيار – وبالتالي ما إذا كانت “الإسلاموية” أو “الإسلاموية الشيعية” تظل مفاهيمَ تحليليةً مفيدةً أو ضروريةً لفهم المشهد السياسي الشيعي في العراق.

الآثار المترتبة على السياسة والانتخابات

من منظور السياسات، ما يلفت النظر هو قدرة الصدريين على التحايل على العلاقة التقليدية بين الحكم الفعال والشرعية. غالباً ما ترى الأبحاث السابقة أن نوعية الحكم والشرعية المعيارية للأنظمة السياسية مرتبطةٌ ببعضها البعض وأساسيةٌ لكلٍّ من القوة الانتخابية والاستقرار السياسي المستدام؛ غير أن الصدريين يوضحون كيف يمكن كسر علاقة الحُكم بالشرعية من خلال إظهار أن ثمة سبلاً يمكن للإسلامويين من خلالها بناءُ قواعدَ انتخابيةٍ، وتأمين النفوذ السياسي دون تقديم حُكمٍ رشيدٍ على المدى الطويل. ربما لم يستوعب المحللون الغربيون هذه الحقيقة كلياً بسبب ميل الخطابات العلمانية الغربية – الأكاديمية والسياسية – إلى إسقاط الأطر العقلانية والنفعية على الحياة السياسية. غالباً ما يختزل هذا النوعُ من الخطاب الدينَ إلى أداةٍ ذاتِ غاياتٍ سياسيةٍ، ويفشل في استكشاف كيف يمكن للدين والسياسة أن يكملا بعضهما البعض، وكيف يمكن للسياسة أيضاً أن تخدم الأغراض الدينية أو أساليب العمل (على سبيل المثال، شكلٌ أخلاقيٌّ للعمل على أساس الواجبات والتضحية بدلاً من المنطق النفعي أو البراغماتي).

أخيراً، تحمل الطبيعة الدينية للتيار الصدري أيضاً تحدياتٍ انتخابيةً مستقبليةً. يعطي الصدريون الأولوية للولاء والانضباط والحفاظ على سيطرة رجال الدين عندما يتعلق الأمر بالجناح السياسي للتيار، ولذا من النادر أن تجد لدى سياسيين صدريين قواعدَ دعمٍ شعبيةً كبيرةً خاصةً بهم. وغالباً ما يرتبط الأداء الانتخابي لمرشحي البرلمان بشعبية الصدر نفسه. علاوةً على ذلك، إن الصدر عرضةٌ باستمرارٍ، من خلال مشاركته السياسية، لخطر تراجع الكاريزما فيه، وتحوله إلى سياسيٍّ عاديٍّ، وبالتالي يجب أن يسعى الصدر دائماً إلى تحقيق توازنٍ بين الحصول على مناصب في الدولة والميدان السياسي، والحاجة إلى إحياء نفوذه من خلال أشكالٍ من النشاط ذي الطابع الطوباوي والرسولي (على سبيل المثال، أشكالٌ معينةٌ من الحراك المسلح أو الاحتجاجات).

قد يؤدي هذا السعي لتحقيق التوازن إلى تناقص المكاسب بمرور الوقت، وقد يفسر سببَ التآكل التدريجي للقاعدة الصدرية بين الشباب العراقي. وقد تدفع الحاجةُ إلى التصدي لهذا التآكل الصدرَ وحركتَه إلى تبنّي مواقفَ سياسيةٍ أكثر راديكاليةً في المستقبل، بحيث يحوّل التنظيمُ تركيزه من الإدارة التكتيكية لسياسة النخبة نحو إدارة قاعدته الداعمة.


هذا التعليق المترجم هو نسخةٌ مختصرةٌ عن تقريرٍ من إعداد مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان: الآلة الانتخابية الصدرية في البصرة.  نُشر التقرير ضمن مشروعٍ أطلقته مؤسسة القرن بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023″، ويدرس التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا البحث في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة التقارير الأصلية باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

بن روبن دكروز هو باحثٌ في قسم العلوم السياسية بجامعة آرهوس، حيث يعمل على مشروع “جلب الإسلامويين الآخرين”. يركز بحثه الأكاديمي على التيار الصدري، والسياسة الإسلاموية الشيعية، والحركات الاحتجاجية في العراق.

التسمية التوضيحية: صورةٍ لمقتدى الصدر مسقطةٌ على نُصُب الشهيد في بغداد، في صورةٍ نُشرت في قناةٍ تتبع للتيار الصدري على تلغرام في 20 أيار / مايو 2022. المصدر: قناة “صدريون ما بقينا” على تلغرام.