ما يلي هو ترجمة بالتعاون مع «مدى مصر» لنسخة مختصرة من نقاش مائدة مستديرة ضمن مشروع  «النَزَعات العابرة للحدود الوطنية في المواطنة: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، لمؤسسة القرن الدولي/ the century foundation.بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.


في عام 2011، ومع نجاح الثورات الجماهيرية في إسقاط الأنظمة الحاكمة في مصر وتونس وليبيا، اندلعت مظاهرات واسعة النطاق، وإن كانت أقل شهرة، في لبنان والعراق. وبينما استهدفت الكثير من تلك الانتفاضات في المنطقة أنظمة سلطوية، فإن احتجاجات لبنان والعراق كانت تثور على أنظمة هي -من الناحية الإجرائية على الأقل- ديمقراطية. وعلى مدار العقد الماضي، دفعت موجات احتجاجية أخرى بالشعب اللبناني والعراقي للخروج إلى الشوارع، وعلى الأخص في عامي 2015 و2019.

ويسمح التقارب الزمني بين الاضطرابات المدنية في البلدين، بالإضافة إلى أوجه التشابه الأخرى بينهما، بالعديد من المقارنات المفيدة. فكل من البلدين يعاني من أنظمة سياسية طائفية وحكومات مركزية ضعيفة، إلى جانب تزايد حالة الاستياء العام من النخب الفاسدة، كما أن البلدين يشتركان في المسار المراوغ نحو التغيير السياسي، والذي تعرقله التوترات الطائفية وحالة الاستقطاب الإقليمي والتوجهات القمعية المعادية للثورة. والآن، فإن الحركة الاحتجاجية في كلا البلدين شبه متوقفة.

في هذا الحوار، تناقش الباحثة طيف الخضري والناشط اللبناني جون قصير، تجارب بلديهما على مدار العقد الماضي. ويتبين من حوارهما أن المقارنة بين الحالتين يمكنها أن تثمر عن رؤى جديدة حول إمكانيات التغيير السياسي، كما يشيران إلى ما قد تحتاجه الحملات المناهضة للنظام القائم من أجل استعادة زخمها. وفي الوقت ذاته، تظهر المناقشة أهمية تجنب المغالاة في التعميم، فإن في العراق ولبنان، كما أي بلد آخر في الشرق الأوسط والعالم، لا تزال تعقيدات وخصوصيات كل سياق على حدة تلعب دورًا مماثلًا للاتجاهات العامة العابرة للحدود، إن لم يكن يفوقها.


جون قصير: لكي نفهم وضع الحركة المناهضة للنظام في لبنان، سيكون علينا العودة في الزمن بنحو عقد إلى الوراء. ففي شباط/فبراير من عام 2011، وفي خضم الانتفاضات العربية، خرج الشباب اللبناني إلى الشارع للمطالبة «بسقوط النظام الطائفي»، فيما كان في ذلك الوقت الحراك الأكبر لمناهضة الطائفية في البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). وقد وُلد أبناء وبنات هذا الجيل الجديد من النشطاء الذي قاد الموجة الاحتجاجية وتحرك ضد الاستقطاب الطائفي المتصاعد بعد الحرب. كما انضمت إليهم أحزاب يسارية تقليدية لدى بعضها علاقات وثيقة بالنظام.

وعلى الرغم من عدم استمرار حراك عام 2011، فإن الجيل الأصغر من النشطاء نجح في خلق مساحة سياسية قاعدية جديدة أتاحت بدورها المجال للتوجهات السياسية المعادية للنظام وللطائفية. فبدأت النوادي الطلابية العلمانية في الجامعات الخاصة في التوسع وانشغلت بقضايا العلمانية والعدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، إلى جانب قضايا طلابية أخرى. وتصدت تلك النوادي للأحزاب الطائفية التقليدية في الانتخابات الطلابية وأحيت إرث الإضرابات والاحتجاجات الطلابية.

وخارج الجامعات، انضم لتلك النوادي العديد من المجموعات النسوية والمنظمات غير الحكومية المعنية بحقوق المرأة، والتي طالبت بوضع قانون مدني للأحوال الشخصية ومنح النساء اللبنانيات الحق في نقل جنسيتهن إلى أطفالهن. وساهمت المنظمات غير الحكومية في تأسيس إطار سياسي جديد يتضمن الإصلاح الديمقراطي والانتخابي وحماية الحريات الفردية وإدانة الفساد. وأخيرًا، قادت هيئة التنسيق النقابية، وهي مجموعة عمالية، معركة غير مسبوقة من أجل حقوق العمال متغلبة في ذلك على التقسيم الطائفي للعمال. وأصبح مهندسو هذا المجال المتكامل الوليد المحرضين الرئيسيين للاحتجاجات المناهضة للنظام بين عامي 2013 و2015.

تحالفات عبر الطوائف

طيف الخضري: إنه من المثير للاهتمام أن أول تحالفات عبر الطوائف المناهضة للنظام السياسي في العراق المعاصر تكونت في عام 2011 أيضًا، ولكن ما يفرقها عن سواها من الحركات هو أنها كانت مدفوعة بأزمة الكهرباء المتفاقمة في ذلك الصيف. فاجتمع العراقيون من المدن الجنوبية وغرب البلاد وكردستان العراق للمطالبة بتوفير هذه الخدمة. ويمكن وصف هذا الحراك باستعارة المصطلح الذي صكه عالم الاجتماع جون نيجل بأنه «عمومي/ commonist»، بمعنى أنه جمع الناس معًا لكي يطالبوا بنظام سياسي أكثر كفاءة في القيام بدوره، بدلًا من تغيير النظام بالكامل.

وفشل هذا الحراك في تشكيل جبهة معارضة ذات هوية متماسكة، بل أنه أنتج اتحادًا فضفاضًا بين مجموعات سبق وأن كانت منقسمة طائفيًا وعرقيًا. ولم يكن هذا الاتحاد بالقوة التي تؤهله للصمود أمام رد الفعل العنيف من قبل الدولة والذي نجم عن مقتل ثلاثين من المتظاهرين، ولا أمام ادعاءات نوري المالكي رئيس الوزراء حينها بأن المتظاهرين ينتمون إلى تنظيم القاعدة وحزب البعث. فلجأ المتظاهرون مجددًا إلى المطالب الطائفية المحدودة التي يحركها استبعاد السنة من الحكومة ذات الأغلبية الشيعية.

ولم يكن هذا الاتحاد بالقوة التي تؤهله للصمود أمام رد الفعل العنيف ولا أمام ادعاءات حينها بأن المتظاهرين ينتمون إلى تنظيم القاعدة وحزب البعث.

وقد اندلعت موجة احتجاجية أخرى في عام 2015 في أعقاب سقوط الموصل في أيدي تنظيم الدولة الإسلامية ، ولكن في هذه المرة استهدفت الاحتجاجات النظام الطائفي العراقي رأسًا. وخرجت تلك الاحتجاجات لإدانة فساد حكومة المالكي التي تسببت في إضعاف الجيش العراقي، وهو ما أدي في نهاية الأمر لانهياره أمام «الدولة الإسلامية»، فقاد المتظاهرون حراكًا مناهضًا للطائفية يقوم على أسس وطنية علمانية للوحدة. وقد كان هذا الحراك، بالعودة إلى نيجل «حراكًا تحوليًا/ transformationist» من حيث دعوته إلى إصلاح شامل للنظام السياسي، والأحزاب الإسلامية في مركزه، والفساد الذي أتاحه. أراد المتظاهرون شكلًا جديدًا للسياسة يقوم على الكفاءة والنزاهة، وعملوا على تحدي المبادئ والمبررات التي قام على أساسها هذا النظام السياسي في أعقاب غزو العراق في عام 2003.

وعلى الرغم من ذلك، ظل من الصعب على المنظمين أن يحافظوا على استمرارية الحراك المناهض للطائفية. فإن الحرب ضد «الدولة الإسلامية» في عام 2015 كانت تستتبع اصطفاف البلاد وراء المقاتلين ذوي الأغلبية الشيعية في حربهم ضد حركة تمرد سنية. وتضاعفت هذه الإشكالية بتحالف الحزب الشيوعي العراقي مع أنصار زعيم الفصائل العسكرية ورجل الدين والسياسي، مقتدى الصدر. وأتاح هذا التحالف لأعضائه الوصول إلى مناصب في البرلمان وتنظيم حملات تدعو لإصلاح النظام «من الداخل». ولكن أدى هذا التحالف أيضًا إلى تقليص موجة الاحتجاج.

INSERT PHOTO HERE

العنف المعادي للثورة والانقسام الداخلي

قصير: لم تنجح انتفاضة 2019 في لبنان في تحقيق تغيير سياسي هيكلي، ويرجع ذلك جزئيًا إلى غياب بنية تحتية سياسية قوية داخل تيار المعارضة الذي سبق هذا الحراك. فقد استقال رئيس الوزراء سعد الحريري بعد أقل من أسبوعين من بدء الاحتجاجات، وتعثرت الحركة بعد ذلك لعدة أسباب. أولًا، لم تتمكن الحركة من تحويل ضغط الشارع إلى قوة تفاوضية لتحقيق تحول سياسي، فإن الحركة، على تعدديتها، لم تكن لتنجح في ظل غياب أحزاب معارضة قوية لديها قواعد شعبية عريضة. ثانيًا، انحسر زخم الشارع أمام عنف الشرطة والجيش وميليشيات حزب الله وحركة أمل. كما استغلت السلطات حالة الإغلاق الشامل أثناء وباء «كوفيد-19» في عام 2020 كمبرر لفض مخيمات الاعتصام في مدينتي بيروت وطرابلس.

وتلا ذلك الانفجار المدمر في بيروت في الرابع من آب/أغسطس عام 2020، والذي أودى بحياة أكثر من مئتي شخص، وخلف الآلاف من الإصابات، وشرد ربع مليون شخص، وتسبب في خسائر أخرى بمليارات الدولارات. وكان من الجلي حينها أن فساد المسؤولين وإهمالهم كان مساهمًا رئيسيًا في هذا الحادث، ومجددًا، تدفق عشرات الآلاف من المتظاهرين إلى الشوارع في الثامن من آب/أغسطس. ووجه المتظاهرون بعنف غير مسبوق من جانب الشرطة، ما أدى إلى ردع المظاهرات الكبيرة. هنا أيضًا فشلت الجهات المناهضة للنظام في فرض تحول سياسي، والسبب الأكبر وراء ذلك هو ضعفها التنظيمي (ولم تسفر المبادرة الفرنسية لتشكيل حكومة وحدة وطنية من التكنوقراط عن أية حلول). وإلى جانب ذلك، فقد أدى انهيار الاقتصاد اللبناني بالكامل، والذي بدأ في عام 2019، إلى انشغال المتظاهرين المحتملين بسبل عيشهم.

كل تلك العوامل، فضلًا عن المجهودات المعادية للثورة التي تزعمها حزب الله والأحزاب الحاكمة ومحافظ البنك المركزي ووسائل الإعلام السائدة، قد تقدم تفسيرًا جزئيًا لفشل الحركة في الحفاظ على استمراريتها بعد انفجار المرفأ. ولكن كان هنالك مشكلة أخرى وهي غياب بنية تحتية سياسية من شأنها أن تحافظ على قدرة الشارع على الضغط وترجمتها إلى مكاسب سياسية. كما أن الأحزاب السياسية الجديدة في لبنان تشكل أغلبها فيما بعد تشرين الأول/أكتوبر عام 2019، ومن الصعب العمل على بناء مؤسسات والاستجابة لأزمة في آن واحد.

وباسترجاع الماضي، يتضح أن حركات المعارضة فيما بعد عام 2015 استنزفتها حالة من خيبة الأمل، ولكن كان هناك أيضًا أخطاء جديرة بالملاحظة، فقد أقدم أغلبية النشطاء الذين كانوا منخرطين في المعارضة في وقت سابق على تأسيس حركات وحملات انتخابية قصيرة الأجل تتمحور حول شخصيات قيادية ذات شعبية، ولم يستثمروا جهودهم في تأسيس هياكل طويلة المدى. وقد أدى نجاح حملة انتخابات بيروت البلدية في عام 2016 إلى اطمئنان بعض النشطاء تجاه الحملات المستقبلية. وعندما لم تنجح حملة الانتخابات الوطنية لعام 2018، بدا من الواضح أنهم لم يقوموا بما يكفي من التنظيم على مستوى القواعد الشعبية، ولا سيما في أجزاء مختلفة من البلاد. وقد كان هناك بعض المجموعات الطلابية والنسوية التي استثمرت جهودًا في بناء قواعد قوية، ولكن أي من ذلك لم يكن كافيًا لتحقيق التحول السياسي المأمول في عام 2019. ومع ذلك، فقد كان هناك بعض الانتصارات الرمزية اللاحقة بين مرشحي المعارضة في انتخابات نقابتي المهندسين والمحامين في عام 2021.

الخضري: في العراق، كان القمع المعادي للثورة هو العامل الأكبر في انحسار زخم حركة الاحتجاج في عام 2019. فقد هاجمت المليشيات وشرطة مكافحة الشغب  المظاهرات بعنف، ما أسفر عن مقتل حوالي سبعمائة متظاهر وإصابة ما لا يقل عن 25 ألف آخرين. كانت المليشيات والشرطة تنفذ عمليات اغتيال موجهة، كما كانت تستهدف الأعضاء الحيوية للمتظاهرين بقنابل عسكرية مسيلة للدموع، وتحرق مخيمات المعتصمين، وتداهم منازلهم، وتخفيهم قسريًا وترهبهم. وعلى الرغم من صعوبة التأكد من هوية مرتكبي هذا العنف في بعض الأحيان، فإن تشابه الهجمات عبر مواقع الاحتجاج المختلفة في العراق يشير إلى استراتيجية منظمة. ونجح هذا العنف في قمع الاحتجاجات في نهاية الأمر، إلا أنه جعل المتظاهرين ومطالبهم أكثر راديكالية، وبعد أن كانت الحركة تطالب في أول الأمر بتوفير الخدمات والقضاء على الفساد، اتجهت للمطالبة بسقوط نظام ما بعد 2003 في العراق بأكمله.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة: 

طيف الخضري، مسؤولة أبحاث في مركز الشرق الأوسط بكلية لندن للاقتصاد. عملت في السابق في العديد من المنظمات غير الحكومية حيث كانت تجري أبحاثًا حول حقوق النساء والفتيات وسبل التقاضي الاستراتيجي في ما يخص انتهاكات الحقوق المدنية والسياسية في دول الخليج العربي والعراق.

جون قصير، شريك مؤسس بـ«ميغافون»، وهي منصة إعلامية تقدم تغطيات إخبارية في صورة جذابة تجابه من خلالها سرديات النظام القائم وتبرز الفئات المهمشة. منذ عام 2011، انخرط قصير في العديد من المبادرات التقدمية المناهضة للنظام، وهو الآن عضو في شبكة «مدى للشباب».