ما يلي هو ترجمة بالتعاون مع «مدى مصر» لنسخة مختصرة من نقاش مائدة مستديرة ضمن مشروع  «النَزَعات العابرة للحدود الوطنية في المواطنة: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، لمؤسسة القرن الدولي/ the century foundation.بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.


تعد قوات الشرطة موضوع بحث شائعًا في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والتخصصات الأخرى ذات الصلة. باستخدام منهجية الإثنوغرافيا -وهي ملاحظة المشاركين- سعى الباحثون إلى فهم دوافع وأعراف وهويات ضباط الشرطة وممارساتهم الثقافية.

ولكن ماذا لو لم تكن التقنيات الإثنوغرافية التقليدية كافية لفهم مؤسسة الشرطة في مجملها؟ في هذه المائدة المستديرة، يجادل ثلاثة أكاديميين استخدموا الأساليب الإثنوغرافية لدراسة الشرطة -اثنان في الولايات المتحدة وواحد في تركيا- بأنه لم يعد من المناسب دراسة الشرطة على مستوى الأقسام أو سيارات الشرطة. وبالرغم من قيمة هذا العمل، إلا أن هؤلاء الباحثين يجادلون بمحدوديته، وإمكانية إغفال  النطاق الكامل للمواقع والفاعلين الذين تشملهم أعمال الشرطة، بما في ذلك الصلات عبر الاختصاصات القضائية والحدود الدولية. بدلًا من ذلك، تحتاج إثنوغرافيا الشرطة إلى استكشاف سياق عمل الشرطة الثقافي والسياسي. يجب أن يوسع البحث أيضًا مجموع الموضوعات التي يدرسها، وأن يقر بالمنظورات المختلفة التي يمكن أن يقدمها اختيار الموضوعات، مثل الاعتماد على ما إذا كانت هذه الموضوعات تتناول ضباطًا ذوي رتب متدنية، أو صناع قرار، أو أشخاصًا أو مؤسسات متأثرة بالشرطة، حيث لكل علاقة بحث تعقيداتها وتحدياتها المنهجية والأخلاقية.

يٌظهر البحث في أعمال الشرطة، من زوايا متعددة، أن الأنظمة الأمنية عالمية والخطوط الفاصلة بين السياسة الداخلية والخارجية ليست دائمة الوضوح. لا ينبغي أخذ تعريف التهديد المحتمل للأمن القومي باعتباره مسلمًا به؛ ولا ينبغي النظر فقط لظاهر المبادرات المتعلقة بتقديم الشرطة بصورة أكثر ودية. تكشف الإثنوغرافيا الأوسع للشرطة الطريقة التي أصبحت بها مقاربات الشرطة عابرة للحدود أيضًا، لا سيما منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، وكيف تغلغلت في زوايا جديدة من الحياة اليومية.

تمثل المناقشات في هذه المائدة المستديرة آراء المشاركين فيها ولا تعكس بالضرورة مواقف مؤسسة القرن/ the century foundation.

هايال أكارسو: قد نعتقد أن الشرطة تختلف بشكل كبير وفقًا للاختصاص القضائي، لكنني وجدت من خلال عملي الميداني -ومن خلال تجربتي الشخصية- أن هناك الكثير من أوجه التشابه والصلات في الشرطة حول العالم. أنهم يعملون معا فعليًا في كثير من الحالات، خاصةً في التدريبات.

خلال عملي الميداني في أنقرة عام 2015، حضرت تدريبًا في أكاديمية الشرطة الوطنية التركية، قدمه ضباط إدارة مكافحة المخدرات الأمريكية لمتدربين من تركيا وأفغانستان والصومال، وشارك المدربون أمثلة لأفضل الممارسات، اعتمدوا فيها على عملياتهم في نوجاليس، التي تقع على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك. بعد أسبوع واحد، شهدت تدريبًا آخر على استخدام القوة، قدمه مكتب فرونتكس (الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل) لقوة الشرطة الوطنية التركية. ما سبق هو مجرد عدد قليل من التجمعات العديدة التي شاركت بها خلال 18 شهرًا من العمل الميداني لدراسة تطبيق إصلاحات الشرطة المستوحاة من الاتحاد الأوروبي في تركيا.

لقد أدهشني مدى تشابك الشرطة التركية مع الشبكات العالمية للأمن والشرطة والإصلاح. كثيرًا ما أسمع شعارًا يتكرر في هذه الاجتماعات: «بما أن المجرمين لا يعترفون بالحدود، فنحن [الشرطة] جزء من عائلة واحدة كبيرة». «القرابة الزائفة» -كما يسميها علماء الأنثروبولوجيا- بين الشرطة تتجاوز الحدود. كان ذلك صحيحًا خاصةً منذ «11 سبتمبر».

يتجاوز رسم الصورة الأكبر لبحث  الشرطة ملاحظة الضباط بالزي الرسمي.

إن تتبع شبكات الشرطة عبر نطاقات ومواقع مختلفة يدفع الباحثين إلى قصر أسئلتهم عن الشرطة في مواقع معينة ومعروفة، فعلى سبيل المثال، كثيرًا ما وضع إثنوغرافيو الشرطة أنفسهم، في المقعد الخلفي لسيارات الشرطة، حيثُ يرافقون الشرطة أثناء الدوريات التي يتفاعلون فيها مع المدنيين، أو في مراكز الشرطة. وفي الواقع، لقد أمضيت أيضًا عدة أشهر خلال بحثي خارج مركز الشرطة. توفر هذه الأساليب رؤى قيمة حول الطريقة التي تعمل بها قوة الشرطة في المجتمع، إلا أن قصر البحث على هذه المواقع يمنع الشخص من رصد تعدد المواقع والجهات الفاعلة (صناع السياسات، والخبراء الدوليون، والبيروقراطيون ، ونشطاء حقوق الإنسان) في صنع الأمن والسياسات الشرطية. يتجاوز رسم الصورة الأكبر لبحث  الشرطة ملاحظة الضباط بالزي الرسمي -بل إنه يتجاوز حدود المناطق التي يكون فيها لمؤسسة شرطية معينة ما يسمى بالحق في استخدام القوة.

نيكول نجوين: وصفك للدوائر السجنية العالمية، والعمل المتجسد بعمق في حفظ الأمن، وتعدد المواقع والفاعلين المساهمين في أنظمة الأمن، له صدى مع أبحاثي في الولايات المتحدة. تتبع عملي الميداني الأخير سياسات الأمن القومي سريعة الانتشار التي منحت الشرطة مزيدًا من الوصول إلى المجتمعات من خلال شراكات جديدة. مثلًا، هناك مركز رياضي في مينيابوليس، يقدم بطاقات عضوية مجانية للأطفال الصوماليين، ويمنحهم أيضًا بطاقات تسمح بدخول ضيف حتى يتمكنوا من البدء في رسم خرائط شبكات اجتماعية لتحديد البؤر المحتملة للنشاط الإرهابي. في هذه الحالة، جمع مدير ألعاب القوى المعلومات وشاركها مع سلطات إنفاذ القانون -وهو ما يمثل رمزًا للطريقة التي تجند بها المؤسسات الشرطية أفراد المجتمع ومقدمي الخدمات الاجتماعية كمفوَّضين ووكلاء للأمن القومي. كان مركز ألعاب القوى بمثابة موقع للمراقبة، حيث وفر تدفقًا ثابتًا للمعلومات الاستخبارية إلى مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة الأمن الداخلي (DHS) وضباط إنفاذ القانون المحليين.

بالوقت نفسه، في الصومال، دربت وزارة الخارجية الأمريكية فرق تحقيق مشتركة متخصصة ضمن قوة الشرطة الصومالية لبناء «القدرات الصومالية على مكافحة الإرهاب». توضح هذه الترتيبات الشرطية كيف يعتبر تعيين الحدود بين السياسة الداخلية والخارجية لا معنى له في نظام عالمي تحدده إمبراطورية الولايات المتحدة؛ بدلًا من ذلك، تكشف هذه الترتيبات عن تمرير المنطق والممارسات والخطابات الشرطية العنصرية التي تدعم وتوسع التكوينات الإمبريالية.

إضفاء الطابع الأمني على الحياة اليومية

هايال: من ناحية أخرى، جرى توظيف خطاب “كسب القلوب والعقول” من قبل جهات أمنية متنوعة على مستويات متعددة. نيكول، نقاشاتك تذكرني كيف أن بعض مشاريع إصلاح الشرطة التي لاحظتها في الميدان انتهى بها الأمر إلى تحويل بعض المدنيين إلى نواب للشرطة، أو على حد تعبيرك، عملاء للأمن القومي بالوكالة. كجزء من بحثي، على سبيل المثال، نظرت في العديد من المشاريع الاجتماعية التي تقودها الشرطة والتي تركز على “المخاطر المُحتملة” الكامنة في “البيئة الاجتماعية” للمواطنين. في مشاريع “الشرطة الاستباقية” هذه، عملت الشرطة التركية مع معلمي المدارس وأصحاب المتاجر المحليين والزعماء الدينيين والأخصائيين الاجتماعيين وحتى مدربي كرة القدم، وأقاموا أنشطة ترفيهية لكي يمكن للشرطة والمدنيين التواصل اجتماعيًا. كان من المفترض أن تقوم مثل هذه المشاريع بتعليم المدنيين كيفية حماية أنفسهم ومحيطهم الاجتماعي ضد “التهديدات الأمنية المُحتملة”. لكن في معظم الأوقات، أعاد سكان الأحياء التي أجريت فيها بحثًا استخدام هذه الخطابات لتجريم أو التمييز ضد الأشخاص الذين يرون أنهم يهددون “نوعية الحياة” في مدينتهم أو حيهم أو مدرستهم. لم يكن هؤلاء المدنيون يعكسون أولويات الأمن القومي في الحياة اليومية فحسب، بل كانوا أيضًا يعكسون مخاوفهم العرقية والطبقية إزاء “الآخرين المشتبه بهم”- الذين جرى تصنيفهم على هذا النحو، في الغالب، على أساس العرق والجنس والطبقة الاجتماعية. إنه مثال جيد على مدى أهمية البحث في كيفية تغلغل الخطابات الشرطية في الحياة اليومية، واستخدامها من قِبل وكلاء اجتماعيين متنوعين في استخدامات مختلفة. 

هايال: سمعتُ تعبير “الذهاب إلى باب المواطن” كثيرًا أثناء عملي الميداني مع وحدات الشرطة المجتمعية في إسطنبول وأنقرة. يتم استخدام التعبير بالعامية في العديد من المواقف اليومية التي لا تتضمن الشرطة، وذلك بشكل أساسي للتعبير عن أن شخصًا ما قد تحمّل عناء الذهاب إلى باب شخص آخر، إما من باب الاحترام له أو بدافع الرغبة في تقديم خدمة ملائمة له، أو كليهما. يُعد الاستخدام الموسع لعبارة “الذهاب إلى باب المواطن” في سياق الشرطة أمرًا مهمًا لعدة أسباب، أولها أنه يتناقض مع تعبير شائع آخر هو (“باب الدولة” أو “بوابة الدولة”)، والذي يُستخدم للإشارة إلى المكاتب الحكومية ومؤسسات الدولة. تشير العبارة ضمنيًا إلى هيكل مُغلق يشبه القلعة يصعُب الدخول إليه ولا تشعر بالترحيب فيه. ما تغير إذن هو أن الدولة، من خلال الشرطة، تقترب من الباب بدلاً من استدعاء المواطن إليها. إنه يشير ضمنيًا إلى مُجاملة، أو التطوع لتقديم خدمة. 

لا تكشف الإثنوغرافيا التي أستخدمها أن هذه الممارسات لم تخلق تداعيات أمنية على الحياة الاجتماعية فحسب، بل كشفت أيضًا أنها حوّلت الأشخاص العاديين إلى عملاء للأمن.

في يناير 2016، على سبيل المثال، رافقتُ ثلاثة ضباط شرطة -امرأة ورجلين- وأخصائية اجتماعية في زياراتهم لأكثر من ستين أسرة في أنقرة. في تلك الزيارات، كان الضباط يعتزمون إجراء مقابلات مع سكان الحي. وكان هدف هذا البرنامج تحديدًا هو تحديد المخاطر الأمنية المُحتملة في منازل السكان وأحيائهم. ما أدهشني خلال هذه الزيارات هو أن أعضاء الفريق اعتمدوا في الغالب على انطباعاتهم الحسيّة لجمع المعلومات خلال كل زيارة. دوّنوا ما لاحظوه من توترات بين أفراد الأسرة، وطريقة ترتيب الأثاث، والمُلصقات على الحوائط، وترتيب المنزل، وحتى الرائحة التي يشمونها. كل هذا أصبح بيانات للشرطة في الكشف عن المخاطر الأمنية المُحتملة. 

مع ظهور مثل هذه الممارسات الشرطية المُجتمعية، لم تعد الشرطة تحصر الأمن في الإطار الضيق لـ “الأمن القومي” (بمعنى، أمن الدولة). بدلاً من ذلك، تعاملت الشرطة مع العمليات الاجتماعية وشبكات القرابة وبيئات الأحياء على أنها مصادر للأمن (أو انعدام الأمن). يمكن إطلاق اسم “أمننة” على هذه الظاهرة؛ وهي العملية التي تعتبر فيها الدولة مسائل بعينها مصدر تهديد وقضية أمنية.

لا تكشف الإثنوغرافيا التي أستخدمها أن هذه الممارسات لم تخلق تداعيات أمنية على الحياة الاجتماعية فحسب، بل كشفت أيضًا أنها حوّلت الأشخاص العاديين إلى عملاء للأمن من خلال تعزيز الاتصال الوثيق والتعاون مع الشرطة. في “اجتماعات الانسجام” (منتديات المجتمع والشرطة) التي حضرتها، على سبيل المثال، ظهرت أصوات تطالب بحماس بفرض ضوابط أكثر صرامة على الآخرين المشتبه بهم، مثل اللاجئين السوريين أو فقراء المدن أو المعارضين السياسيين. لقد أدهشني أيضًا الدعم الشعبي للشرطة: الأشخاص الذين يصطفون لالتقاط صور سيلفي مع الشرطة أو إرسال تقارير عن تطبيقات “الإعلام عبر الإنترنت”. 

إن وجود رجال شرطة يعملون كـ”أخصائيين اجتماعيين يحملون أسلحة”، ويستفسرون عن احتياجات الناس ورغباتهم ويتحدثون مع المواطنين في غرف معيشتهم، قد يرسم للبعض صورة وديّة للشرطة، إلا أنه يعني أيضًا توسيع نطاق العمل الشُرطي في المزيد من مجالات الحياة اليومية. علاوة على ذلك، فإن إشراك المجتمعات في حفظ الأمن لا يؤدي بالضرورة إلى “تقليل أعمال الشرطة”. في الواقع، يمكن للمجتمعات أيضًا أن تعمل كقوة شرطة ثانوية. 

منظورات المُراقَبين

 أليكس فيتال: في أوائل التسعينيات، رفعت مدينة سان فرانسيسكو يدها إلى حد كبير، عن إسكان المشردين المتزايد عددهم، وتوجهت بدلًا من ذلك إلى تجريم سلوكهم العام. وبررت ذلك بخطاب تحسين «نوعية الحياة» في المدينة، وبالمقابل، أنشأت مشروعًا يسمى ستريت واتش/ Streetwatch، لتدريب المتطوعين على مراقبة سلوك الشرطة بشكل مباشر تجاه المشردين، والتحدث معهم حول تجاربهم مع الشرطة. كان الهدف هو تحديد ممارسات الشرطة غير القانونية أو غير العادلة، وذلك على أمل الحد من قدرتها على تنحية الناس عن الرأي العام. كان ذلك بحثًا إثنوغرافيًا حول ضبط الأمن، من نواحٍ عديدة، لكنه اختلف كثيرًا عن معظم الأبحاث من هذا النوع، حيث إنه اتخذ منظورًا من يتأثرون بشكل مباشر بأعمال الشرطة. تبدأ معظم الأبحاث حول ضبط الأمن من وجهة نظر الشرطة: حضور التدريبات، ومرافقتهم في جولات، وحضور اجتماعات مجتمعية، فيما المنظور القائم على الشارع هو ما ساعد في تشكيل آرائي النقدية حول الشرطة/ الضبط الشُرَطي للأمن.

بمرور الوقت، شاركت أيضًا في التدريب والمرافقة خلال جولات والاجتماعات المجتمعية، كما أنني رصدت انخراط قادة الشرطة في التخطيط وفي استراتيجيات التواصل، ما سمح لي بفهم كامل الطريقة التي ترى الشرطة بها نفسها والأطر الهيكلية التي شكلت أفعالها، مثل الأطر القانونية والضرورات السياسية والسعي إلى الشرعية.

نجوين: كجزء من الإثنوغرافيا الخاصة بي، أمضيت سنة في المدة من 2012 إلى 2013 في مدرسة ثانوية مع برنامج متخصص بالأمن القومي لتدريب شباب الفقراء والطبقة العاملة ليصبحوا الجيل التالي من العاملين في مجال الأمن منخفض المستوى.  وشاركت بالبرنامج في العديد من تدريبات الأمن القومي والشرطية، وفي إحدى الرحلات الميدانية، ذهبنا إلى أكاديمية الشرطة التابعة للولاية، حيث أتيحت لي الفرصة أنا والطلاب لاجتياز بعض الأجزاء من برنامج طلاب الشرطة، وفي أحد التدريبات، تلقيت أنا والطلاب أسلحة تدريب (أسلحة خاملة) لاستخدامها في محاكاة مداهمة منزل والتأكد من عدم وجود أحد به. وكان دوري لعب شخصية مشتبه به في السرقة، مختبئ في صندوق من الكرتون مُخَزَن بمستودع مؤن طويل. كان عليَّ «إطلاق النار» على الطلاب إذا عُثِر عليَّ. مثل عمليات المحاكاة الأخرى، وجدت نفسي منغمسة في هذه العملية، وبذلت جهدي لـ«الفوز». حتى لو اختلفت مع الشرطة، فغالبًا ما أجد نفسي منخرطة في الأنشطة عالية الكثافة والمثيرة للأدرينالين -كنت متحمسةً ومنخرطةً، وممتنةً لأخذ راحة من الكد في اليوم الدراسي. استطعت أن أرى ما جذب الطلاب إلى البرنامج ولماذا ينظر إليه المعلمون على أنه طريقة فعالة لإعداد الطلاب للوظائف المستقبلية.

كان دوري لعب شخصية مشتبه به في السرقة، مختبئ في صندوق من الكرتون. كان عليَّ «إطلاق النار» على الطلاب إذا عُثِر عليَّ. وجدت نفسي منغمسة في هذه العملية، وبذلت جهدي لـ«الفوز».

بعبارة أخرى، كان من الصعب إظهار العلاقة بين الشرطة والعنف في هذه اللحظات، حتى لو كانت واضحة جدًا (بعد كل شيء، كنت أركض بسلاح خامل وأحاول «إطلاق النار» على الطلاب غير المشبوهين). لا أعتقد أنني وصلت للتعاطف مع الشرطة في هذه اللحظات. ومع ذلك، فقد توصلت إلى فهم وجهات نظر الطلاب والمعلمين وإغراء برنامج دراسات الأمن القومي. بالطبع كنت أدرس الأنظمة الأمنية من خلال تدريبهم، لذلك كنت على بعد خطوة واحدة من العمل اليومي للممارسين.

الجندر ودراسات الشرطة

نجوين: إلى أي مدى حدد جندرك تعاملاتك مع ضباط الشرطة؟ عندما تحدثت عن كيف تحدث ضباط الشرطة عن سيارتك كهدف مثالي، لم يسعني إلا التفكير في تجاربي الخاصة التي تعرضت فيها للمضايقات والتحرش والأذى أثناء وجودي في ميدان البحث. كيف شكل تمركزك وعلاقته بمن تحاورتِ معهم عملك الميداني؟

أكارسو: بصفتي باحثة في بيئة مُهيمن عليها من قِبَل الذكور، فقد تأثرت بالتأكيد بالتمييز الجنسي، والأبوية، وبنظرات الرجال المحدقة التي اعتادت النساء في تركيا (كما في أي مكان آخر) على تجربتها بشكل يومي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة من الكثافة. في تلك الأوقات، كان عليَّ في أغلب الأحيان اتخاذ تموقعًا حويطًا متمثلًا في «الشابة الضعيفة التي تقوم بواجباتها للمدرسة»، الأمر الذي جذب السلوك الأبوي والحمائي من بعض من حاورتهم من الذكور. في أوقات أخرى، كان عليَّ تقليد الإيماءات  أو لغة الجسد «الشبيهة بالذكور»، أو كان عليَّ المبالغة في التأكيد على نجاحي أو مهاراتي لأكتسب احترام من أحاوره. وعلى غرار ملاحظات أنثروبولوجيين آخرين، كان الضباط الذكور حريصين على مشاركة نقاط ضعفهم وصدماتهم و«ذكرياتهم البطولية» معي كامرأة.

كان من الأسهل تكوين علاقة مع معظم من حاورتهن من الإناث لأن عددنا كان قليلًا، كما كان بناء علاقة مع الباحثين الأكاديميين النقديين والضابطات والضباط من الأقليات الاجتماعية (مثل الأكراد والعلويين) مفيدًا بشكل خاص في هذا المجال. وأيضًا كان الأمر أشبه بدراسة الشرطة من خلال هوامشها، فعلى الرغم من صورتهم القوية، يشعر ضباط الشرطة عادة بالقهر في بيروقراطية الشرطة، وكان لدى العديد منهم شكاوى حول كل شيء تقريبًا. وإلى جانب التهكم المستمر، كان هناك شعور شائع بين معظم من تحدثت إليهم من الشرطة بأنهم ضحية، وأعتقد أن هذا ما جعلهم أكثر تكلُّمًا.

لقد نُسِب لي العديد من الهويات المختلفة، والمتناقضة أحيانًا، في هذا المجال من قِبَل من حاورتهم. على سبيل المثال لا الحصر: «غيزيتشي» (أي شخص دعم احتجاجات حديقة غيزي عام 2013)؛ وعميلة لوكالة المخابرات المركزية (CIA)؛ والأخت صاحبة الحجاب؛ وربما الأكثر ظُرفًا «الأستاذة التي تبدو كالإرهابية». لقد اعتبرني من حاورتهم من الشرطة «أستاذة إرهابية» بسبب المعطف العسكري الأخضر الذي كنت أرتديه خلال فصول الشتاء القارس في أنقرة. يشبه المعطف المظهر المميز للشخصيات اليسارية المتمردة المشهورة مثل دنيز جيزميس أو تشي جيفارا.

بخلاف تعريفي بشكل خاطئ باعتباري عميلة لوكالة المخابرات المركزية (CIA) أو باعتباري «غيزيتشي»، اعتقد بعض الناس أيضًا أنني مفتشةً سريةً معينةً من قبل مديرية الأمن أو وزارة الداخلية أو حتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه. وفي أحيان أخرى، اعتُبر التزامي بدراسة الشرطة علامة على أنني «ابنة لضابط شرطة استُشهِد». من الأمور الشائعة لفتح محادثة في تركيا هو سؤال الناس عن عائلاتهم أو حياتهم الشخصية، وقد تلقيت الكثير من الأسئلة من هذه النوعية. على سبيل المثال، عندما ذكرت وفاة والدي غير المتوقعة في إحدى هذه المحادثات، بدون ذكر السبب الحقيقي (تمدد الأوعية الدموية في الدماغ)، اعتقد البعض أنه ضابط شرطة اِستُشهِد. وفي أحيان أخرى، اعتقد الناس أنني ضابطة في زي مدني، خاصة خلال أكثر من 60 زيارة منزلية رافقت فيها الشرطة أثناء قيامهم بـ«مشاريع اجتماعية» مع المدنيين.

كنت دائمًا على دراية بعلاقة القوة غير المتكافئة بين مسؤولي الدولة والمواطنين العاديين، لأن الأول يتمتع دائمًا بالسلطة المؤسسية والحق في العقاب.

ورغم الادعاءات المتعلقة بمشروعات حول إصلاح الشرطة من خلال الشرطة، كنت دائمًا على دراية بعلاقة القوة غير المتكافئة بين مسؤولي الدولة والمواطنين العاديين، لأن الأول يتمتع دائمًا بالسلطة المؤسسية والحق في العقاب. لذلك، وليتُ اهتمامًا كبيرًا لتقليل مثل هذه المخاطر، خاصةً عندما شهدت مواجهات بين الشرطة والمواطنين. ومع ذلك، كانت أسئلة التواطؤ أكثر تعقيدًا مما توقعت. بغض النظر عن الموقف الأخلاقي، فإن الإثنوغرافيا الشرطية، بطريقة أو بأخرى، كانت «أنثروبولوجيا قذرة» -وهو مصطلح تستخدمه باحثة الأنثروبولوجيا بياتريس جوريجي لوصف التعقيد الأخلاقي في بحث الشرطة- ووجدت أنه لا مفر من مشاهدة بعض أشكال العنف سواء في الميدان أو القصص التي تُشارَك معي.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة: 

هايال أكارسو، أستاذة مساعدة في الأنثروبولوجيا بجامعة أوتريخت. صدر عن مشروعها البحثي الأخير، «إثنوغرافيا لإصلاحات الشرطة في تركيا»، و«منشورات في الإثنولوجيا الأمريكية/ American Ethnologist»، و«الأنثروبولوجيا اليوم/ Anthropology Today»، و«المجتمع والفضاء/ Society and Space»، و«المجهودات/ Exertions».

نيكول نجوين، أستاذة مشاركة في دراسات السياسة التربوية بجامعة إلينوي-شيكاغو. وهي مؤلفة كتاب «منهج الخوف: الأمن الوطني في المدارس الحكومية الأمريكية والمجتمعات المشتبه فيها: العنصرية ضد المسلمين والحرب الداخلية على الإرهاب».

أليكس فيتال، أستاذ علم الاجتماع بكلية بروكلين، ومركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك. ومنسق مشروع الشرطة والعدالة الاجتماعية، ومؤلف كتاب «نهاية العمل الشرطي». أمضى الـ30 عامًا الماضية في الكتابة عن أعمال الشرطة، ومستشار لكل من إدارات الشرطة ومنظمات حقوق الإنسان على المستوى الدولي.