كان لحزب الدعوة الإسلامية نفوذٌ لا يُضاهى في العراق بعد عام 2003، لكن الممارسات التي ساعدت الحزب في النجاة من بطش نظام صدام حسين ساعدت في ترسيخ نظام المحاصصة العرقية-الطائفية المتصلبة في العراق.


منذ الغزو الأمريكي الذي أطاح بنظام صدام حسين عام 2003، لم يضطلع أيُّ حزبٍ سياسيٍّ بدورٍ محوريٍّ في السياسة العراقية كالدور الذي اضطلع به حزب الدعوة الإسلامية، فثلاثةٌ من بين خمسة رؤساء وزراء ممن حكموا العراق خلال تلك الفترة المضطربة كانوا من قادة حزب الدعوة، كما شغل العديدُ من كبار أعضاء الحزب مناصبَ وزراء ومحافظين ومسؤولين أمنيين.

وحين سقط نظام صدام حسين لم يكن لدى الحزب سوى قاعدةٍ شعبيةٍ ضئيلةٍ داخل البلاد، لكن على عكس الأحزاب الأخرى، كان حزب الدعوة يتألف من أفراد الطبقة الوسطى المتعلمة. وخلال مكوثهم في المنفى في إيران وسوريا والمملكة المتحدة، تَواصل أعضاء حزب الدعوة مع معارضي نظام صدام من جميع الخلفيات، وكانت كوادره على تواصلٍ وثيقٍ بالطبقة السياسية الصاعدة، ما هيأهم لحُسن التعامل مع المشهد السياسي الذي ساد العراقَ ما بعد الغزو الأمريكي.

كان تأثير أعضاء حزب الدعوة في تحديد القواعد المكتوبة وغير المكتوبة للسلطة في عراق ما بعد الغزو تأثيراً لا مثيل له، ففي ظل قيادتهم تَشكل النظام التوافقي في العراق، وراحت الموارد والمناصب الحكومية تُقسَّم وفقاً للعرق والطائفة. مكّن هذا النظام الجديد الأحزابَ والسياسيين من السعي وراء السلطة والتفوق على منافسيهم من خلال مقايضة رأس المال الأمني والاقتصادي والرمزي الذي توفره المناصب الحكومية، وبناءً عليه راحت الأحزاب الكردية والسنية والشيعية تتصارع داخلياً وفيما بينها على الموارد بغية احتكار القيادة داخل مجتمعاتها.

ثلاث شخصياتٍ متميزة

خلال توليهم سدة الحكم سعى رؤساء الوزراء الثلاثة من حزب الدعوة إلى تأسيس الحُكم الشيعي للدولة العراقية تأسيساً يختلف عن تجربة الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، لكن لم يتمكن أيٌّ من هؤلاء الرؤساء في نهاية المطاف من الترفع عن الممارسات التي ساهمت في نجاح الحزب بوصفه منظمةً سريةً تَنشط في المنفى، لكنها حالت دون بناء دولةٍ ناجحةٍ. ساهم إبراهيم الجعفري، الذي تولى رئاسة الوزراء عام 2005، في قيام دولةٍ عرقيةٍ-طائفيةٍ رسّخت الانقساماتِ الطائفيةَ. كما وطّد نوري المالكي (رئيس الوزراء 2006-2014) دولةً مركزيةً تدعمها شبكةٌ تتبع له شخصياً، وتحابي الموالين له وحسب. أما حيدر العبادي (رئيس الوزراء 2014-2018) فقد حاول بناء دولةٍ مدنيةٍ، لكنه لم يلق تأييداً سوى من عددٍ قليلٍ من الحلفاء في الطيف السياسي العراقي، وما زال هدفه ذلك غير منجَزٍ حتى الآن.

وثمة عدة رواياتٍ مفصلةٍ عن تاريخ حزب الدعوة وهيكله وأيديولوجيته، غير أن هذا التقرير يقدم منظوراً جديداً من خلال دراسة الدور الذي أداه حزب الدعوة في المشهد السياسي ما بعد الغزو الأمريكي، وذلك من خلال دراسة السير الذاتية لكبار الشخصيات في حزب الدعوة، والتي لم تكن متوفرةً باللغة الإنكليزية، كما أن الطرق المحددة التي تجلت بها فترات حكم كل رجلٍ من رجال حزب الدعوة قد تأثرت بشخصياتهم وشبكات العلاقات التي أسسوها وحافظوا عليها بمرور الوقت.

كما أن هؤلاء الرجال الثلاثة يمثلون ثلاثةَ أجيالٍ متميزةٍ من نشطاء حزب الدعوة، أجيالٍ ذات خبراتٍ تعريفيةٍ مختلفةٍ، وصِلاتٍ بالقوى السياسية الشيعية الأخرى، وعلاقاتٍ بالهوية الوطنية العراقية. فإبراهيم الجعفري، الذي ينحدر من عائلةٍ تجاريةٍ من الطبقة العاملة، حكم كمفاوضٍ ينبذ الصراع، ما أدى إلى ترسيخ الطائفية-العرقية. وأما نوري المالكي، الذي تأثر بِصِلاته العميقة بقبيلته ومنطقته، والسنوات التي أمضاها في المنفى، فقد حاول أن يحكم العراق كلياً تقريباً من خلال شبكاته الشخصية. وأخيراً كانت لدى العبادي رؤيةٌ لتحديث الدولة العراقية، لكنه كان يفتقر إلى الطموح الشخصي والشبكات اللازمة لتحقيق طموحاته.

لم يتول سدةَ الحكم في العراق رئيسُ وزراء من حزب الدعوة منذ رحيل حيدر العبادي. لم يُحل الحزب رسمياً ولم يغادره أيٌّ من أعضائه البارزين، غير أن قيادته أمست اليوم مشتتةً جغرافياً ومنقسمة أيديولوجياً، فقد غادر قدامى الأعضاء العراقَ وتقاعدوا في لندن، كما أن كوادر النشطاء من جيل المالكي – ومعظمهم من قياديي الحزب – إما اعتزلوا السياسة أو أمسوا محبطين لدرجة أنهم يفتقرون للحافز للعودة إلى الحزب. أما الكوادر الشابة فتراها تتبنى وجهة نظرٍ إصلاحيةً ومعتدلةً، لكنهم لا يزالون رهناً بسلطة المالكي ومكانته ونفوذه داخل الدولة. وفي بعض الأحيان حاول البعض من هذا الجيل الشاب تقديم أنفسهم كمرشحين لرئاسة الوزراء. كما تحوَّل مقر حزب الدعوة في المنطقة الخضراء إلى مكانٍ للتجمعات الاجتماعية لشخصياتٍ ثانويةٍ ممن لا يزالون في العراق. وفي نهاية المطاف راح نجم حزب الدعوة يأفل بعد أن أمسى عاجزاً عن صوغ رؤيةٍ لمجتمعه الشيعي، وللدولة العراقية في المشهد السياسي بعد الغزو.

وبعد أن كان ذات يومٍ وسيطاً للسياسة الشيعية، أصبح حزب الدعوة رمزاً، بل حتى محرّكاً، للانقسامات في السياسة الشيعية.

الدين والدولة

تعكس الانقسامات داخل حزب الدعوة جدلاً حول الإسلام السياسي الشيعي، جدلاً لا يزال دون حلٍ. هل يجب أن يتعايش الإسلام السياسي الشيعي مع دولةٍ مدنيةٍ علمانيةٍ يقودها المدنيون العلمانيون بدلاً من رجال الدين؟ أم هل ينبغي للعراق أن يتبنى النموذج الثوري الإيراني في الإرشاد الديني؟ لقد واجهت الأحزاب السياسية الشيعية العراقية هذه المعضلة منذ وجودها في المنفى، وحاولت خلق مساحةٍ لنسختها الخاصة من السياسة الشيعية العراقية.

تعتمد نتيجة هذا الجدل على عددٍ من المتغيرات التي يصعب التنبؤ بها، وأولها من سيخلف أرفع زعيمٍ دينيٍّ (المعروف بالمرجعية)، ألا وهو السيستاني ذو الاثنين وتسعين عاماً، والمتغير الآخر هو مستقبل الجمهورية الإسلامية الإيرانية. سوف تحدد هذه المتغيرات العواملَ التي توجه مسار السياسة الشيعية العراقية. وبالمثل تظل قدرة الشارع العراقي الشيعي على تغيير مسار السياسة المؤسسية متغيراً غير معروفٍ لكنه مؤثرٌ. إن التيار الصدري هو الوحيد ممن لديه قاعدةٌ شعبيةٌ قادرةٌ – من خلال تعبئة الشارع – على تحدي النظام العرقي-الطائفي الذي سمح للمالكي وحلفائه بأن يتسيدوا المشهد.

حتى كتابة هذا التقرير فشل الصدر في هذه المحاولات، وفي صيف عام 2022، أدى قراره بسحب نواب التيار الصدري من البرلمان – على الرغم من حصوله على أصواتٍ أكثر مما حصل عليه المالكي في الانتخابات البرلمانية – إلى تقويض فرص الصدر في اختيار رئيس الوزراء، كما كان الصدر يفتقر إلى عددٍ كافٍ من الحلفاء السياسيين العراقيين. ظلت الفصائل السياسية الكردية والسنية مرتبطةً بنظام ما بعد عام 2003، وهو نظامٍ هيمنت عليه المصالح الطائفية والشخصيات القوية، والأكثر من ذلك أن هذه الفصائل ما زالت ترى في المالكي حليفاً مفيداً.

وفيما يظل الجدل حول الإسلام السياسي الشيعي قائماً، فمن المرجح أن تتبع السياسة العراقية بعض الأنماط المتوقعة التي تشكلت بتأثيرٍ من رؤساء الوزراء السابقين من حزب الدعوة. سيتعين على أي رئيس وزراء أن يتعامل مع الإرث الذي خلفته خمسة عشر عاماً من سياسة حزب الدعوة. ومن المرجح أن يبقى النظام العرقي-الطائفي الذي هيمن على المشهد السياسي في العراق تحت حكم الجعفري ما بعد الغزو، وأن يستمر في توجيه عملية اختيار رئيس الوزراء، حيث إن اختيار السوداني يعتبر دليلٌ على هذه المرونة، وذلك لأنه يمثل حلاً وسطاً بين الشخصيات المُحتكرة لتمثيل المجتمعات الكردية والشيعية والسنية.

ومن المرجح أيضاً أن تستمر السياسات القائمة على الأشخاص – وٍالتي ربما تمثل أثقل إرثٍ من زمن المالكي في الحكم – في التأثير في التمثيل داخل كل مجتمعٍ، ما سيحدّ من قدرة الأحزاب السياسية على لعب دورٍ مؤثرٍ. سيتعين على رئيس الوزراء، بغض النظر عن انتمائه، أن يوازن بين التوجهات المتنافسة في السياسة الشيعية، والعلاقات مع الجيران العرب وغير العرب، والغرب، والدول النامية، غير أن أي رئيس وزراء سوف يقع في مأزق الاضطرار إلى مزاولة السياسة وفقاً للقواعد الراسخة، فيما يكافح ضد هذه القواعد نفسِها لكي يعالج تحديات الحكم المتصاعدة التي يواجهها العراق.

والأهم من ذلك أن التنافس بين الفصائل السياسية الشيعية – تنافساً لم يستطع ثلاثة رؤساء وزراء من حزب الدعوة تهدئته أو حله – أصبح أكثر أهميةً من أي وقتٍ مضى، وسيستمر في رسم ملامح النظام السياسي في العراق.


هذا التعليق المترجم هو نسخةٌ مختصرةٌ عن تقريرٍ من إعداد مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان “رجال حزب الدعوة: كيف أثرت شخصيات حزبٍ في المشهد السياسي الجديد في العراق”.  نُشر التقرير ضمن مشروعٍ أطلقته مؤسسة القرن بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023″، ويدرس التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا البحث في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة التقارير الأصلية باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

ماريا فانتابي هي كبير مستشاري ملف العراق في مجموعة الأزمات الدولية. قبل ذلك، عملت فانتابي في بعثة الاتحاد الأوروبي في العراق في منصب كبير مستشاري برنامج إصلاح القطاع الأمني.

التسمية التوضيحية: عراقيون شيعة يرفعون صورةً لرئيس الوزراء إبراهيم الجعفري خلال مظاهرة في 25 كانون الأول / ديسمبر 2005 في بغداد. المصدر: واثق خزاعي / Getty Images