في عام 2019، نشرت مؤسسة القرن دراسة عن «الفاعلين المهجنين»، وهو مصطلح يشير إلى الجماعات المسلحة التي عارضت الدولة وانضمت إليها في الوقت نفسه. وساعد ذلك المفهوم على تفسير غموض الجماعات المسلحة التي لم تكن جزءًا كاملًا من الدولة ولم تعارضها بشكل قاطع، حيث يشير الاستكشاف العميق والتاريخي لعنف الميليشيات في الدول المضطربة مثل العراق إلى أنه حتى الفئات المنظمة مثل «الدولة» و«الجماعات المسلحة» لا تعبر بشكل كامل أو دقيق عن المنافسة العنيفة على السلطة.


ثاناسيس كامبانيس: لقد طرحت فكرة التهجين بشكل ملهم للغاية منذ بضع سنوات كطريقة مفيدة لاستكشاف الطريقة التي تسعى بها بعض الجماعات إلى السلطة وتمارسها بأساليب مختلفة -داخل الدولة وفي أوقات أخرى بمعارضة لها؛ من خلال الأسلحة وفي أحيان أخرى من خلال التنظيم المدني؛ وهلم جرا. وهذا التفكير هو ما دفع إلى «الفاعلين المهجنين: الجماعات المسلحة وانقسام الدولة في الشرق الأوسط/ Hybrid Actors: Armed Groups and State Fragmentation in the Middle East»، الذي شاركنا في تأليفه مع أربعة زملاء آخرين.

قبل بضع سنوات، أتاح التهجين طريقة لتحدي الثنائيات التبسيطية التي سعت لوصف الجماعات المسلحة بأنها جهات حكومية أو غير حكومية. لماذا لا يمكن أن تكون بعض الجماعات كلا الخيارين؟ الآن، وبكسب الجدال إلى حد ما وصل المفهوم أيضًا إلى حدود الفائدة المرجوة منه. جميع الفاعلين الأقوياء عالميون بشكل ما في طريقة سعيهم للسلطة، سوف يستخدمون العديد من السبل في وقت واحد: العنف، وسلطة الدولة، والإكراه، والاستقطاب، والبناء المؤسسي، والتعتيم، والتراتبيات المركزية، والمعارضة بلا قيادة. على سبيل المثال؛ المسؤولون عن الجماعات المسلحة المحورية التي تتمتع بسلطة كبيرة في العراق، سواء المقاتلون المجهولون أو غير المعروفين، غالبًا ما يكونون أكثر أهمية بكثير من شخصيات السلطة المرئية مثل رئيس الوزراء والرئيس ورئيس البرلمان. في السنوات القليلة الماضية، كيف تغيرت المفاهيم والأنماط التي تستخدم لبحث ووصف المجموعات التي تمارس السلطة فعليًا في نظام العراق المعقد؟

ريناد منصور: نعم، المحدودية التي واجهناها عند تطبيق التهجين كمفهوم كان في تعريفه للدولة. وكان المصطلح مفيدًا للتساؤل حول أنواع الفاعلين التي تتلاءم مع ثنائية الدولة أو غير الدولة، لكنه لم يكف للتساؤل أو إعادة التفكير في ساحتي الدولة وغير الدولة نفسهما. بطريقة ما، لا يزال التهجين يحدد الدولة والسلطة على أنها جزء لا يتجزأ من المؤسسات الحكومية الرسمية المنفصلة عن المجتمع الأوسع. لكن في العديد من بلدان الشرق الأوسط، تتمتع هذه المؤسسات بسلطة اجتماعية محدودة، فيما الساحات الأخرى غير المرتبطة بالحكومة الرسمية -الأحزاب السياسية على سبيل المثال- هي الحامل الحقيقي لسلطة الدولة. كما كتبت العام الماضي، «للتغلب على هذا المأزق، ينبغي ألا يكون التركيز إذن على طبيعة هذه المجموعات بل على طبيعة الدولة نفسها». يمكن للجماعات المسلحة القوية الرئيسية أن تنخرط في السياسة «الرسمية» (إرسال ممثلين إلى الفروع التنفيذية والتشريعية والقضائية للحكومة) والسياسة «غير الرسمية» (الصفقات السرية، والاتفاقات غير الرسمية)، ويكون التحدي إذن هو فهم ما يخبرنا به هذا ليس عن المجموعات نفسها، ولكن عن نوع  الدولة التي يتنافسون فيها.

ما هي سلطة الدولة؟

كامبانيس: إذن فإن السياق هو ما  يُكوِّن المحتوى حقًا؟ نحاول اكتشاف كيفية عمل السلطة، وكيف يلعب العنف دورًا في المنافسة على السلطة؟ إذا كنت أفهمك بشكل صحيح، فإن ما تقوله هو أننا لن نفهم اللاعبين الرئيسيين والجماعات المسلحة الرئيسية في العراق اليوم بشكل صحيح ما لم نفهم الساحة التي يتنافسون عليها بشكل صحيح. وفي العراق اليوم، لا تتجسد مصفوفة القوة والموارد في دولة واضحة المعالم ومنظمة بشكل جيد تقاتل الجماعات من أجلها. بدلًا من ذلك، لاستعارة المصطلحات الخاصة بك، تكمن السلطة والموارد في كل من الهياكل الرسمية وغير الرسمية -داخل وخارج الدولة- ويجب على المجموعات التي تريد السلطة أن تتنافس في مجالات متعددة، باستخدام مجموعة متنوعة من الأدوات، وفي مثل هذا السيناريو من السيولة، ستلجأ الجماعات المسلحة بشكل متكرر إلى العنف، لكن العنف ليس أداتهم الوحيدة. إذا تغير السياق، ستتكيف المجموعات. على سبيل المثال، إذا استطاعت قوة مهيمنة فرض بعض السيطرة المركزية على الجماعات المسلحة، فإن الجماعات المسلحة ستكيف تكتيكاتها. هل يجب علينا البحث عن مفاهيم ديناميكية ومرنة تساعدنا على فهم الدولة والسلطة والمتنافسين -بما في ذلك الميليشيات والأحزاب- كجزء من جسم عميق التشابك؟

منصور: هناك بالفعل العديد من المصطلحات التي تسعى إلى وصف أولئك الفاعلين -خارج الدولة، والمتفرعين من الدولة، وأشباه الدولة، والفاعلين المهجنين، على سبيل المثال لا الحصر. ربما بدلًا من صياغة مصطلحات أو مفاهيم جديدة، يجب علينا أولًا استخدام الظاهرة لاختبار وفهم المفاهيم الحالية بشكل أفضل. إذن؛ ما الذي يخبرنا به ظهور أو وجود جماعات مسلحة مرتبطة بالحكومة في العراق عن الدولة؟ لماذا يستثنون من مفهوم الدولة رغم تمثيلهم في جميع الفروع الرسمية للحكومة؟ إننا نرى، في الواقع، أن كثيرين بعالم السياسة لديهم تعريف صارم للدولة -يعتمد على البنى الويستفالية أو الفيبيرية الجديدة المنبثقة من التاريخ الأوروبي، ويعني هذا التفسير أن العديد من الجماعات المسلحة في المنطقة لا تنسجم بدقة مع هذا التعريف. لذا، قبل أن نطلق عليهم أسماء جديدة، لماذا لا ننتقد البناء نفسه؟ ما هي الدولة في الشرق الأوسط؟ وما هي سلطة الدولة؟

INSERT PHOTO

كامبانيس: أنت محق -ربما لا نحتاج إلى مصطلحات أو مفاهيم جديدة. نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر إبداعًا ومرونة في الطريقة التي نحاول بها فهم الواقع الموجود أمامنا. أنا شخصيًا أجد أنه من المفيد التفكير بشكل نسبي وتاريخي في العنف والقوى التي تستخدمه داخل الدولة وخارجها. أنت تسأل ما هي سلطة الدولة؟ وما هي الدولة في الشرق الأوسط؟ أعتقد أن هناك خصوصيات محددة وعرضية تاريخيًا تميز الشرق الأوسط في الوقت الحالي. لكنني أعتقد أيضًا أن العنف والميليشيات والدول وسلطة الدولة لا تختلف بشكل جوهري في مناطق العالم المختلفة، رغم أن كل هذه المفاهيم يمكن أن تتخذ أشكالًا متباينة جدًا في سياقات وطنية وإقليمية مختلفة.

أجد من الضروري مقاربة سؤالك من خلال تذكير نفسي بالتوازي الواضح، لكن المحدود بين حالتي العراق والولايات المتحدة، لأجل  التوضيح. في الولايات المتحدة، هناك الكثير من الجماعات المسلحة التي تعمل بشكل هامشي فقط تحت مظلة الدولة -أفكر في أقسام الشرطة، بعضها ينحدر من بيروقراطية دوريات العبيد الخاصة، والتي يقع معظمها تحت سلطة حكومة البلدية أو المدينة وهي سلطة قضائية غامضة. أنا لا أقول إن إدارة شرطة نيويورك -التي تضم أكثر من 35 ألف ضابط بالزي الرسمي، و20 ألف موظف دعم، وميزانية سنوية تزيد عن 10 مليارات دولار- هي نظير مطابق لوحدات الحشد الشعبي في العراق. لكنها من الناحية المفاهيمية تعد نوعًا مماثلًا من المؤسسات، ولها علاقة متشابهة بالدولة.

أنا لا أقول إن إدارة شرطة نيويورك -التي تضم أكثر من 35 ألف ضابط بالزي الرسمي- هي نظير مطابق لوحدات الحشد الشعبي في العراق. لكنها من الناحية المفاهيمية تعد نوعًا مماثلًا من المؤسسات، ولها علاقة متشابهة بالدولة.

في رأيي، مثل هذه المقارنات مفيدة، لأنها تذكرنا بأن التقاطعات الغامضة بين الميليشيات وسلطة الدولة ليست استثنائية، وبمرور الوقت، عندما تصبح العلاقات العضوية المعقدة بين الجماعات المسلحة المختلفة أمرًا طبيعيًا، يمكن التوقف عن النظر إليها على أنها مظاهر لدولة فاشلة، ويمكن بدلًا من ذلك اعتبارها الأشكال العضوية التي اتخذها عنف الدولة في سياق معين.

كل ما يمكن قوله: أنت على حق!

السياق هو الأكثر أهمية

منصور: نعم أتفق معك. التحول التاريخي لهؤلاء الفاعلين المسلحين يوفر لنا مقارنات مثيرة للاهتمام، ولست متأكدًا من أننا نقوم بذلك بما يكفي. هناك شكل من أشكال الماهوية «essentialism» الذي غالبًا ما يتسلل إلى الجدل السياسي حول الجماعات المسلحة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة إذا كانوا يستخدمون الإسلام كواحد من أطرهم الأيديولوجية (غالبًا جنبًا إلى جنب مع معاداة الإمبريالية أو معاداة أمريكا). ومع ذلك، كما تقول، فإن هذه المجموعات ليست مسؤولة أمام هيكل حكومي رسمي، لكنها أيضًا لم تخترع اللعبة.

لذا، أعتقد أن ما نقوله هو إن السياق الذي تعمل فيه هذه المجموعات يصبح مهمًا مثله كمثل دراسة المجموعات نفسها (إن لم يكن أكثر أهمية؟). لنأخذ مثالك، الأمر ليس أن قسم الشرطة القديم يشبه وحدات الحشد الشعبي، بل أن الدولة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت ربما تشبه أجزاءًا مما نراه اليوم في الدولة بالعراق. ويسمح الافتقار إلى مساءلة هذه الجماعات بالعمل داخل وخارج آليات الحكومة الرسمية، وطمس الخطوط الفاصلة بين الأمن والاقتصاد والسياسة والمجتمع بشكلٍ عام.

كامبانيس: عندما بدأنا الحديث منذ عام مع باحثين يركزون على الجماعات المتطرفة العنيفة في الولايات المتحدة، تساءلت عن مقدار التداخل المفاهيمي الذي سنجده. من الناحية التحليلية، نتحدث غالبًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عن جماعات مسلحة يمكن بالكاد تمييز قدرتها بالمقارنة مع جيش الدولة الرسمي، وتعمل في دول ضعيفة ومجزأة. في المقابل، في الولايات المتحدة، تتمتع الميليشيات التي دعمت هجوم 6 يناير على مبنى الكابيتول بقدرات عسكرية هامشية، وتعمل في سياق دولة قومية مركزية قوية بشكل مدهش. لكن هناك خيطًا مشتركًا واحدًا يمكن أن تستعين به هنا وهو أننا نكتسب رؤية تحليلية من خلال التفكير في النظام البيئي الكامل للسلطة، ووجوب أن نركز على الظروف الراسخة -والتي تعني في معظم الحالات النظر إلى الممارسات والظروف المُحدِدة التي أنشأتها الدولة.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة:

ريناد منصور: باحث أول ومدير مشروع مبادرة العراق بتشاتام هاوس «Chatham House».

ثاناسيس كامبانيس، مدير مركز القرن الدولي للأبحاث والسياسات «Century International»، وزميل أقدم بمؤسسة القرن «The Century Foundation».