ما يلي هو ترجمة بالتعاون مع «مدى مصر» لنسخة مختصرة من نقاش مائدة مستديرة ضمن مشروع  «النَزَعات العابرة للحدود الوطنية في المواطنة: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، لمؤسسة القرن الدولي/ the century foundation.بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.


كيف تنشئ المجتمعات هوية مشتركة يمكنها تغذية أو دعم جماعة مسلحة؟ كيف تعزز الطقوس والممارسات التعبئة العنيفة في سياقي التمرد الانفصالي في الصحراء الغربية وفي وسط القوميين البيض في الولايات المتحدة، وهما سياقان شديدا الاختلاف؟ تشير المقارنة بين الحركات المسلحة في هذه المناطق والسياقات المختلفة إلى أنه حتى الجماعات المسلحة التي لها أهداف وسياسات مختلفة تمامًا لا تزال تستخدم بعض الآليات المشتركة لتغذية الهوية والمظالم المشتركة.


كيرت برادوك: لفترة طويلة، كان مفهوم الهوية -بما في ذلك الطريقة التي تقدم بها أنواع مختلفة من الجماعات المتطرفة هوية ذات معنى للناس- جزءًا من الجدل الدائر حول «ما الذي يصنع متطرفًا». في السنوات العشرين الماضية، ركز هذا الجدل بشكل كبير على الجماعات الإرهابية الجهادية الإسلامية، وكان لهجمات «11 سبتمبر» أثرًا طويلًا ودائمًا في مقاربتنا لفهم هذه الجماعات.

الآن، وعلى الرغم من ذلك، أعتقد أننا نرى أن الجماعات المحلية في الولايات المتحدة غير مختلفة. نعرف منذ فترة طويلة أن الجماعات اليمينية «التقليدية» المتطرفة، مثل النازيين الجدد، تعد الأعضاء المحتملين بإمكانية أن يصبحوا جزءًا من شيء أكبر منهم. لكن مع التكرار الحديث لما نسميه بـ«اليمين المتطرف» (وهو، في الوقت الحاضر، مزيج من مجموعات ومنظمات وأيديولوجيات ومؤامرات مختلفة)، لا توجد قنوات رسمية تُقَدَم من خلالها وعود بالهوية. بدلًا من ذلك، يبدو أن الأفراد الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف في الولايات المتحدة يكتسبون هوية مشتركة من أنواع الأفعال التي يقومون بها على الإنترنت وخارجه، والتي تشير إلى استعدادهم لمحاربة اليسار وللدفاع عما يرونه «أمريكا التقليدية».

هل ترى أشياء مماثلة في الصحراء الغربية يا جاكوب؟

جاكوب موندي: أتفق على أننا بحاجة إلى التفكير فيما هو أبعد من الفئات المعيارية مثل «المتطرف». في الصحراء الغربية، نتحدث عن حركة استقلال إثنية قومية لديها منفعة كبيرة من وجود ملاذ إقليمي آمن في بلد مجاور (الجزائر)، حيث يعيش 40% من السكان الأصليين كلاجئين منذ عام 1976. وقد تمكن هؤلاء السكان من التعامل في حياتهم اليومية -على الأقل في مخيمات اللاجئين- كما لو كانوا بالفعل أمةً منفصلة عن المغرب. هناك أشياء أخرى يفعلها الصحراويون الغربيون لإبداء تمايزهم عن المغاربة، داخل الأراضي التي يحتلها المغرب، بدءًا من الملبس مرورًا بالمطبخ وصولًا إلى الاستمرار في التحدث باللغة الإسبانية الاستعمارية. لكن إذا كنا نتحدث عن الجناح المسلح للقومية الصحراوية الغربية، فإننا نتحدث عن الشتات في الجزائر. يعتبر المنفى الآمن ميزة هائلة بالمقارنة مع الاضطرار إلى التنظيم، سريًا في الغالب، داخل نظام سياسي من أجل تشكيل توجه هذا النظام، كما هو حال المجموعات المذكورة في بحث كيرت. القاسم المشترك الأساسي الذي يجب التفكير فيه هو كيف تبني المجموعات «الآخر» -التهديد- الذي يشجع على تماسك المجموعة. إن امتلاك إحساس قوي بالعدو -بالآخر، وبالأخص ذلك الذي يشكل تهديدًا وجوديًا بالإبادة الإيديولوجية أو الجسدية، لا يصنع العجائب من أجل التماسك الداخلي فحسب، بل يمكنه أيضًا طمس أي تناقضات داخلية قد تعترض طريق تنظيم المقاومة. مرة أخرى، هذا -الآخر- هو شيء حاضر للغاية بالنسبة للقوميين الصحراويين: المغرب والمغاربة. إن كيفية تكوين الهوية «داخليًا» لها علاقة كبيرة بكيفية تشكيلها «خارجيًا».

ما يثير قلقي بشكل متزايد هو درجة تبني سياسيي التيار السائد اليمينيين لبعض هذه النقاط الأكثر تطرفًا من أجل مناشدة عناصر في دوائرهم الانتخابية.

برادوك: أعتقد أن هذه ملاحظة رائعة وتتجاوز السياق الجغرافي أو الأيديولوجي. بناء الآخر إحدى العمليات الأساسية التي تُنَمِّي الجماعات الأمريكية اليمينية المتطرفة من خلالها التماسك والهوية. نرى هذا في النقاط التي يثيرونها خطابيًا والتي تتعلق بـ«غزو» المهاجرين عديمي الإنسانية، والتهديد الوجودي الذي يشكله ما يسمونه بـ«الاشتراكية» أو «الشيوعية» (مع القليل من النقاش حول ماهيتهم الحقيقية)، ومكائد «النخب» الغامضة. يتم إلقاء كل هذه الجماعات والأيديولوجيات في دلو مفاهيمي واحد، يصلح كعدو منزوع الإنسانية، ويعتقد اليمين المتطرف أنه بحاجة إلى محاربته.

ما يثير قلقي بشكل متزايد هو درجة تبني سياسيي التيار السائد اليمينيين لبعض هذه النقاط من أجل مناشدة العناصر الأكثر تطرفًا في دوائرهم الانتخابية. لست متأكدًا مما إذا كان ذلك ما حدث في الصحراء الغربية، لكنه بالتأكيد ظاهرة مألوفة في بعض البلدان في أوروبا، ويعود تاريخها إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية. هل تلعب سياسات التيار السائد دورًا في الطريقة التي يُنمَّي بها المتطرفون في الصحراء الغربية هويتهم الجماعية؟

حركات مُحكمة وفضفاضة

موندي: أعتقد أننا ربما نصطدم بسؤال «الأجنحة المتطرفة» عن ماهية علاقة العربة بالفَرَس. بين الجناحين العسكري والسياسي في أي حركة معطاة. هذا السؤال مربك، خاصةً في تلك الحركات التي تعتنق العنف -تحديدًا العنف ضد المدنيين- أو تتسامح معه كتكتيك مشروع أو كنهاية «حتمية» للعبة، أكان يحدث ذلك بشغف أو على مضض.

يبدو أيضًا أننا بحاجة إلى التفكير في الحركات «الفضفاضة» من ناحية و«المُحكمة» من ناحية أخرى. نُظِمَت حركة استقلال الصحراء الغربية بإحكام شديد منذ تبلورها في أوائل السبعينيات، وعند مقارنتها بالحركات القومية الأخرى، ذات الطابع المماثل، التي تناضل ضد احتلال توسعي (الفلسطينيون على سبيل المثال)، ظلت حركة استقلال الصحراء الغربية موحدة بشكل مدهش. ربما ليس من المستغرب أنها، في الوقت نفسه، أصبحت أكثر حذرًا فأكثر من الناحية السياسية والاستراتيجية مع انتقال القيادة التأسيسية من الشباب الطموح إلى مرتبة كبار السن المحترمين. أي أنهم لم يضطروا أبدًا إلى التعامل مع ظهور منافس راديكالي يدفع باتجاه اتخاذ خطوات أكثر تطرفًا بناءً على أساس أيديولوجي مختلف. بل وصل الأمر لرفض صحفي اشتراكي في إسبانيا لقيادة الحركة ووصفها بأنها «قومية برجوازية».

في مثل هذا الوضع «المُحكَم»، حيث انهارت الفروق المؤسسية بين الأجنحة المسلحة والسياسية باسم النضال الثوري المستمر، قد يكون من الصعب التفريق بين العربة والحصان. لكننا نعرف منذ فترة طويلة أن الشباب في مخيمات اللاجئين، وخاصة من ولِدوا بعد قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار الصادر سنة 1991، هم من كانوا يطالبون باستئناف الحرب ضد المغرب، ما حدث أخيرًا في أواخر عام 2020. ما أراه في الصحراء الغربية هو حركة سياسية عسكرية شديدة الوحدة تستخدم المقاومة المسلحة (بطرق تقليدية عوضًا عن الطرق غير النظامية) للحفاظ على تماسك الحركة. في حالتك، يبدو أننا نرى وضعًا مُحتَمَلًا للاندماج حيث ينهار المركز (أو «التيار السائد») والأطراف (أو الأجنحة الراديكالية) في بعضهما البعض، مما يثير التساؤل حول ما يقود هذه الحركة التوحيدية. هل كان الانهيار نتيجة للطريقة التي طبعت بها إدارة دونالد ترامب بشكل مباشر وغير مباشر ما كان نوعًا ما خطابًا مطمورًا عن اليمين؟ أم أنها سيرورة أطول؟ (إذا تمكنا من تنحية تدمير الطبقة الوسطى الأمريكية جانبًا منذ السبعينيات كخلفية واضحة لذلك).

برادوك: هذه هي قراءتي لما يحدث. على الرغم من أن الكثيرين قد يحاججون بأن تيار اليمين السائد واليمين الراديكالي أصبحا أكثر اصطفافًا منذ انتخاب باراك أوباما في عام 2008 (وفي الواقع، لقد شهدنا ارتفاعًا في نشاط اليمين المتطرف بعد انتخابه)، أعتقد أن خطاب ترامب هو ما أدى إلى تحالف علني بين الأجنحة المتطرفة والمسؤولين المنتخبين مثل بول جوسار، ومارجوري تايلور جرين، وجوش هاولي، ومن شابههم. يبدو لي أن هؤلاء المسؤولين المنتخبين أجروا حسابات سياسية لاستنتاج أن الأجنحة تشكل نسبة كافية من الناخبين التي عليهم مناشدتها بنفس الطريقة التي قام بها ترامب -مع دعم ضمني للعنف (في شكل رسائل سياسية موجهة بدهاء وبشكل غير مباشر لمجموعة ديموغرافية معينة، ولا يمكن فهمها إلا من قبل هذه المجموعة) ودعم علني ومتزايد للجماعات الموجودة على الأطراف الراديكالية.

يعيدنا هذا إلى نقطتنا الأصلية فيما يتعلق بالهوية: يبدو أن الأفراد الذين يدعمون مستنسخي ترامب (لعدم وجود مصطلح أفضل) قد بنوا هويتهم الجماعية حول ما أصبح يُعرف باسم «الترامبية»، وهو شكل من أشكال القومية-الشعبوية اليمينية العدوانية. كما يبدو أن هؤلاء السياسيين (والعناصر الأكثر راديكالية في جمهورهم) يعلقون هويتهم بشكل متزايد على حقيقة أنهم «معادون لليسار». وبالطبع، أدى هذا إلى زيادة الاستقطاب في الولايات المتحدة، حيث يتزايد قلق وغضب اليسار الأمريكي من اليمين الجديد، الذي يتشكل على صورة ترامب. لماذا تعتقد أن اليمين الأمريكي يتزايد في انهياره على نفسه، ويتحول إلى توليفة من «التيار السائد» و«الهامش»، فيما يبدو أن الجماعات التي تدرسها تظل متمايزة في هذا الصدد (بعبارة أخرى، يظل الجناحان السياسي والمسلح منفصلين، حتى إذا كانا منتسبين لبعضهما)؟

المتطرفون في التيار السائد

موندي: لست متأكدًا من رغبتي في الذهاب إلى هناك، لأنه رغم اهتمامي بهذه النَزَعات، فإنني مجرد مراقب غير رسمي لها. ربما نتفق على أن هذا شيء كامن ومتأصل في تكوين النظام السياسي الأمريكي، حيثُ إنها دولة استعمارية استيطانية عنصرية، لم تُطَهَر من قبل، ولكن دُفِنَت لبعض الوقت فقط من قبل روايات الفاشية المقاتلة في الحرب العالمية الثانية و«العقود الثلاثة المجيدة» لرأسمالية شمال الأطلسي ما قبل السبعينيات. وكما يشير المؤرخ مايك ديفيس، فإن نخبة ليبراليو-الوسط في الولايات المتحدة، واليسار أيضًا في هذا الصدد، لم يتصالحوا أبدًا مع حقيقة أن ثلث السكان سيحتضنون أدولف هتلر الأمريكي، أكان رجلاً أو امرأة، متى حضر. وهذا ما قاموا -وما زالوا يقومون به- مع ترامب، مع عدم كفاءته كما ثَبُت. لكني أعتقد أن هذا التقارب بين الأطراف والوسط، مهما كان غير مستهدف  من بعض النواحي، إلا أن له علاقة كبيرة بمجموعات معينة تتمتع بأموال جيدة في الولايات المتحدة، وهي مجموعات مُتفاعلة ليس فقط مع الثورات الثقافية في الستينيات والسبعينيات، ولكنها ترسي الأساس لحكم الأقلية، وهي استراتيجية جغرافية استغرق صنعها عقودًا وتأتي الآن بثمار هائلة. وهو ما يقودنا إلى السؤال الديموغرافي.

برادوك:  أحد أصعب التحديات التي يجب مواجهتها يتعلق بالدوافع الجديدة لكِثيرين من اليمين المتطرف الأمريكي. يبدو أن اليمين المتطرف في الولايات المتحدة بمثابة رسم بياني دائم التطور، حيث يمكن للأفراد انتقاء واختيار أجزاء من أيديولوجيات مختلفة للأخذ عنها. هذا ليس بالشيء الجديد. ولكن الجديد والذي يصعب التعامل معه هو حقيقة أن العديد من الدوائر التي يشتمل عليها هذا الرسم البياني تتضمن تهديدات خيالية من مجموعات خارجية مما يساعد على تألف هوية جماعية داخل اليمين المتطرف. ويعد العديد من عناصر اليمين المتطرف الأمريكي مولعين بنظريات المؤامرة والمعلومات المضللة التي لا أساس لها من الصحة، أكثر من أي وقت مضى في التاريخ الحديث. وأحد الآثار السياساتية الرئيسية لذلك هو أن تهدئة المخاوف الحقيقية (مثل عدم المساواة الاقتصادية) لن تكون فعالة بما يكفي لتقليل التجذُّر المفضي للعنف بين من يتعرضون لتهديدات خيالية. هناك دائمًا مخاوف خيالية جديدة تكون مجموعة اليمين المتطرف مستعدة للتقدم بها، والتابعون الجدد مستعدون للتشبث بها. عندما تكون ممارسة العنف ضد تهديدات خارجية خيالية عنصرًا رئيسيًا في أيديولوجية المجموعة، يصبح من الصعب تفريق أحد أعضاء تلك المجموعة عن نواياهم العنيفة.

هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.

كتابة:

كيرت برادوك، أستاذ مساعد في الاتصالات العامة بكلية الاتصالات بالجامعة الأمريكية. 

جاكوب موندي، أستاذ مساعد في دراسات السلام والصراع بجامعة كولجيت.