منذ عام 2003 يعاني العراقيون الفسادَ والقصورَ والتوتراتِ الإثنيةَ-الطائفيةَ، والتي بررتها النخبة السياسية بأنها ثمنُ الديمقراطية، لكن حركة تشرين كشفت عن مسارٍ بديلٍ رغم أنها لا تزال غيرَ ناضجةٍ سياسياً.


في العدد الأول من جريدة التكتك العراقية الثورية، والذي نُشر في تشرين الثاني / نوفمبر 2019، قال الصحفي والناشط المتمرس أحمد عبد الحسين إنه منذ عام 2003 ذاق الشعب العراقي كل أنواع الإذلال كجزءٍ من صفقةٍ مجحفة، وأن عليهم تحمُّل الفقر وانهيار الخدمات الأساسية والإكراه والعنف والتدخل الأجنبي لا لشيءٍ سوى الحفاظ على النظام السياسي، وقد كان البديل المفترض لذلك النظام هو الفوضى، وإراقة الدماء، وفقدان الديمقراطية في نهاية المطاف.

قارن عبد الحسين هذا الاتفاق بمفهوم “عقد السفيه” في الفقه الإسلامي، وهو اتفاقُ شائنٌ قد يصل إلى درجة البطلان. جعلت الأسابيع التي سبقت صدور العدد الأول من جريدة التكتك هذه السفاهة واضحةً أكثر من أي وقتٍ مضى، فقد قتلت قواتُ أمن الدولة، تحت أنظار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، أكثرَ من مائة متظاهرٍ سلميٍّ، فنزل الثوار العراقيون إلى الشارع أخيراً رافضين تلك المقايضة المسمومة والمضللة، وكتب عبد الحسين أن “ثورة الشباب جاءت في تشرين الأول / أكتوبر 2019 لنقض هذا العقد السفيه ومحاسبة المستفيدين منه ومن نفذوه”.

أرى أن الثورة التي بدأت في العراق في 1 تشرين الأول / أكتوبر 2019 تمثل حركةً ديمقراطيةً محليةً انتقدت بشدةٍ نوعَ الديمقراطية المزعومة التي نشأت في العراق بعد عام 2003. لقد مزقت هذه الثورةُ الوضع السياسي الراهن، واقترحت طريقةً بديلةً لممارسة السياسة بناءً على هويةٍ وطنيةٍ عراقيةٍ موحدةٍ، لكن التشرذم وقلة النضج الأيديولوجي منعت أحزابَ الاحتجاج التي ظهرت في أعقاب الثورة من الانخراط في سياساتٍ معارضةٍ فعالةٍ.

أدى العنف الذي استخدمته الأحزاب الشيعية المهيمنة ضد المتظاهرين الذين يغلب عليهم الشيعة في حركة تشرين إلى نسف ما ظل حتى ذلك الحين اعتقاداً بديهياً أرسته النخبة السياسية الطائفية بأن الولاءَ للطائفة أو العرق هو السبيل الوحيد لضمان الحماية في العراق. وبدلاً من هذا العقد الاجتماعي القائم على الانقسام العرقي والطائفي، دعا المتظاهرون إلى بناء دولةٍ مدنيةٍ على أساس هويةٍ وطنيةٍ عراقيةٍ موحدةٍ؛ غير أن الأحزاب السياسية التي انبثقت عن حركة تشرين لم تتمكن، حتى الآن، من اقتراح رؤيةٍ بديلةٍ قويةٍ للعراق، ما يعكس تشرذمها الداخلي وافتقارها إلى النضج الأيديولوجي.

كما أرى أنه يمكن النظر إلى حركة تشرين على أنها حركةٌ معاديةٌ للهيمنة، ولا ترفض المؤسسات كلياً، على عكس التفسيرات السائدة. وبدلاً من ذلك، تتفاعل الحركة مع المؤسسات بهدف إحداث تغييرٍ عميقٍ في ديناميات السلطة في قلب السياسة العراقية، وإنشاء دولةٍ أكثر مساواةً.

أفكار تشرين قد تسود يوماً ما

تمثل حركة تشرين حركةً ديمقراطيةً محليةً، وقد انخرطتْ في المشهد السياسي العراقي في محاولتها تغييرَ ديناميات السلطة في صميم نظام المحاصصة العرقي-الطائفي. سعى كلٌّ من المتظاهرين والأحزاب الجديدة التي انبثقت عن حركة تشرين إلى التحول من نظامٍ سياسيٍّ تهيمن عليه الأحزاب الإسلاموية إلى نظامٍ قائمٍ على شكلٍ من أشكال الهوية الوطنية العراقية الموحدة. في ظل هذا النظام الجديد، سيُمثَّل الناخبون على أساس “عراقيتهم” – أي بحكم مواطنتهم ببساطةٍ – لا وِفق انتمائهم إلى طائفةٍ أو إثنيةٍ معينةٍ. أدت الثورة إلى تقويض الفكرة القائلة بأن نظام المحاصصة العرقي-الطائفي هو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها ممارسة السياسة في العراق؛ غير أن أحزاب الاحتجاج الجديدة لم تتمكن من صياغة رؤيتها البديلة للعراق صياغةً كاملةً، اللهم سوى بعض التأكيدات الغامضة على فكرة الأمة العراقية.

لكن لا ينبغي الاستهانة بمدى التهديد الذي تشكله حركة تشرين والأحزاب الاحتجاجية التي جاءت في أعقابها للوضع الراهن المهيمن بعد عام 2003. كان التهديد الذي استشعره النظام واضحاً في استخدامه غير المسبوق للعنف العشوائي والمفرط ضد المتظاهرين. وفي الآونة الأخيرة يمكن رؤية تأثير حركة تشرين في الطريقة التي وضعت بها الأحزابُ الشيعيةُ المهيمنةُ نفسَها على أنها مناصرةٌ للإصلاح السياسي الجوهري خلال مفاوضات تشكيل الحكومة بعد انتخابات تشرين الأول / أكتوبر 2021. وتجدر هنا الإشارة بإسهابٍ إلى ثلاثة أمثلةٍ على ذلك:

أولاً، أصرّ مقتدى الصدر على تشكيل حكومةِ “أغلبيةٍ وطنيةٍ”، وكسرِ القاعدة البرلمانية للإجماع، ما أدى إلى جمودٍ سياسيٍّ، وتصدُّعٍ في “البيت الشيعي” بسبب رفض الصدر إشراكَ المالكي في الحكومة الجديدة حتى تشرين الأول / أكتوبر 2022.

ثانياً، حاول تحالفُ النصر، وهو تجمعٌ داخل الإطار التنسيقي (وهو تحالفٌ من الأحزاب السياسية الموالية لإيران)، خلْق فرقٍ بلاغي بين “الاتفاق” و “الإجماع” في محاولةٍ واضحةٍ لاسترضاء متظاهري تشرين. قال تحالف النصر بأنه لا يريد المشاركة في تقسيم المنافع العامة بين الأحزاب وفقاً لمعايير حكومة “الإجماع”، بل يريد أن يُشرَك في عملية صنع القرار؛ لكن المفرداتِ الجديدةَ لم تُترجَم إلى أية تغييراتٍ مهمةٍ في نظام المحاصصة العرقي-الطائفي.

ثالثاً وأخيراً، سعى كلٌّ من الإطار التنسيقي والتحالف الثلاثي المنافس له إلى تقديم أعضاء مستقلين في البرلمان وأحزابٍ احتجاجيةٍ، على الأقل بلاغياً، كمجموعاتٍ رئيسةٍ لإنهاء المأزق السياسي المستمر في العراق.

إن الأحزاب الشيعية المهيمنة تعي أن من أجل الحفاظ على أهميتها واكتساب الشرعية من حركة تشرين، عليها أن تظهر وكأنها تدفع باتجاه التغيير المؤسسي الجوهري الذي دعت إليه الاحتجاجاتُ. وهي تشير إلى استعدادها لتجاوز السياسات القائمة على الهوية من خلال المطالبة بـ “حكومة أغلبيةٍ” لا محاصصةٍ عرقيةٍ-طائفيةٍ، وتفضيلها “الاتفاق” على “الإجماع”؛ وتأييدها المرشحين المستقلين. ومن المفارقات أن هذه المناورات تعكس تأثير حركة تشرين، وتمثل كذلك محاولاتٍ واضحةً لاستغلال المناخ السياسي الذي أوجدته الاحتجاجات، استغلالٍ أصبح ممكناً لأن تصوُّر أحزاب الاحتجاجات لِما قد يبدو عليه النظام السياسي البديل لم ينضج بعد تماماً.

وبالطبع لن تكون أحزاب ما بعد عام 2003 هي التي ستشكل تحدياً كبيراً لديناميات السلطة في قلب نظام المحاصصة العرقي-الطائفي في العراق، أو التي ستخلق نظاماً أكثرَ مساواةً، فهذه الأحزاب استولت على الدولة ودمرتها، وحوّلتها إلى إقطاعةٍ لخدمة مصالحها الخاصة.

ولكي تنجح في التحدي، تحتاج أحزاب الاحتجاج الفتية إلى الدعم في تعزيز مَأسستها، وقد يشمل ذلك العملَ على تطوير هويةٍ عراقيةٍ موحدةٍ بحيث يمكن لهذه الأحزاب أن تزرع بين أعضائها الولاءَ للمبادئ التي تدافع عنها، على عكس القادة ذوي الكاريزما. سيكون هذا التطور الأيديولوجي حاسماً لضمان استمرارية الأحزاب الفتية. كما تحتاج الأحزاب الجديدة إلى العمل على بناء تحالفاتٍ مع الأحزاب الأخرى والمجتمع المدني والنقابات، فهذه تحالفاتٌ ضروريةٌ لتكون قادرةً على فهم ديناميات السلطة المعقدة فهماً أفضل، واستكشاف شتى الطرق التي يمكن من خلالها تحدي هذه الديناميات.

بالإضافة إلى ذلك، يجب على الأحزاب الفتية الاستمرار في إنشاء حضورٍ لنفسها يتجاوز تلك المناطق التي تهيمن عليها الأحزابُ الشيعية، من أجل وضع مفهوم “الأمة العراقية” موضعَ التنفيذ وجذب أعضاء من جميع أبناء الأمة. وإلى جانب بناء التحالفات، سيسمح ذلك للأحزاب الفتية بدمج شرائحَ مختلفةٍ من المجتمع العراقي، والتأكدِ من أن ولاء الناخبين هو للحزب، لا للأفراد داخله.

غير أن الاختبار النهائي لمُثل حركة تشرين سيكون مرهوناً بقدرتها على النجاة من خطورة وقوة نظام المحاصصة العرقي-الطائفي في العراق، والتغلب على المقاومة التي تواجهها على مدار الدورة الانتخابية الحالية. إذا أثبتت الأحزاب الفتية أنها قادرةً على القيام بذلك، ويمكنها إظهار أنها أدواتٌ جديرةٌ بالثقة يمكن من خلالها إحداث التغيير، فلربما يمكنها – على المدى الطويل – تغيير ديناميات السلطة تغييراً عميقاً، تلك الديناميات التي بُني عليها النظام السياسي بعد عام 2003. وأخيراً قد تبني هذه الأحزاب نظاماً يخدم مصالح الشعب العراقي، ويخلق البلدَ الذي يطالب به الشعب منذ زمنٍ.


هذا التعليق المترجم هو نسخةٌ مختصرةٌ عن تقريرٍ من إعداد مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان “لا تزال الأحزاب الثورية الفتية أفضلَ أملٍ للديمقراطية في العراق.”  نُشر التقرير ضمن مشروعٍ أطلقته مؤسسة القرن بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023″، ويدرس التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا البحث في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة التقارير الأصلية باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

طيف الخضيري هي باحثة في مركز الشرق الأوسط التابع إلى جامعة لندن للاقتصاد. عملت الخضري قبل ذلك في العديد من المؤسسات الغير هادفة للربح حيث قامت بأبحاث عدة عن حقوق النساء والفتيات، كما شاركت في جهود تقاضي استراتيجية حول انتهاكات الحقوق المدنية والاجتماعية في منطقة الخليج والعراق.

التسمية التوضيحية: عَلمٌ يرفرف في ساحة التحرير في بغداد في 21 تشرين الثاني / نوفمبر 2019. احتل آلاف المتظاهرين ساحة التحرير وسط بغداد في 1 تشرين الأول / أكتوبر من ذلك العام، مطالبين بإصلاح الحكومة والسياسات. المصدر: إيرين تريب / Getty Images