رفضتِ الحركاتُ الاحتجاجيةُ إقحامَ الدين في السياسة، فيما أساء السياسيون الفاسدون إلى سمعة الفصائل الدينية، غير أن رجالَ الدين ومؤسساتِهم ما زالوا لاعبين أقوياء في المجتمع العراقي وإن تغيرت أدوارهم.


“فيما مضى كان المُعمّم مقدساً”، هذا ما قاله لي رجل دينٍ بنبرةٍ تشي بالتذمر. كان ذلك في فصل الشتاء في مدينة النجف الأشرف، وكنا جالسين في مكتبٍ مُشمسٍ في واحدةٍ من أحدث المدارس الدينية الدولية. ترك رجل الدين ذاك، والذي كان رئيسَ المدرسة الدينية، باب غرفته مفتوحاً فيما كان الطلاب يتنقلون عبر الممرات بزيهم الديني التقليدي. بدت المدرسة، من نواحٍ عديدةٍ، وكأنها مدرسةٌ ثانويةٌ. كانت وجوه الطلاب نَضِرةً والدماثةُ في ملامحهم، وقد أتوا من دولٍ قريبةٍ وبعيدةٍ، بعضُها أجنبي وبعضُها مألوفٌ لعامة العراقيين، كلبنان وإيران والسنغال وباكستان وأفغانستان وغيرها. عندما تحدثتُ إلى الطلاب كلموني بلغةٍ عربيةٍ رسميةٍ فصيحةٍ، لكنهم غالباً ما كانوا يُحيلون الأسئلة المهمة والحساسة لمعلميهم، وقد جاء هؤلاء إلى النجف في مَهمةٍ محددةٍ، وينحدرون من مجتمعاتٍ فيها الشيعة أقلياتٍ مضطهدةً، على عكس الحال في العراق اليوم.

قبل عقدين وحسب كان وجود مدرسةٍ كهذه مستحيلاً. لقد كانت تلك المدرسة مؤسسةً متراميةً الأطراف، ومن الواضح أنها تتلقى تمويلاً جيداً، وتعمل بحريةٍ بل وتنسق مع المسؤولين الحكوميين لتخفيف قيود الحصول على التأشيرات لطلابها. قبل عام 2003 كان المعمّمون موقرين من قبل العامة، وقد جعلهم هذا التبجيل يشكلون تهديداً للدولة، ولذا دأبت الحكومة العراقية على ملاحقة وترهيب ونفي وابتزاز وإعدام المئات من رجال الدين الشيعة. وفي نهاية المطاف حاول النظام البعثي في عهد صدام حسين استمالة المؤسسة الدينية والاستيلاء عليها. في ذلك الوقت لاقى رجال الدين مصاعبَ جمّةً للحفاظ على وجود الحوزة العلمية، وهي المراكز الدراسية التي تضم طلبة العلوم الدينية للمدرسة الفقهية التابعة للمذهب الاثني عشري، لكن الحظ ابتسم لهم عندما أُعيد تشكيل الدولة العراقية بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة عام 2003.

فاز الإسلامويون الشيعة بأغلبيةٍ ساحقةٍ في الانتخابات القليلة الأولى، ومَنحوا المؤسسة الدينية الشيعية والحوزة مطلَقَ الحرية ووسعوا مواردها. ولأول مرةٍ في تاريخها لم تجد الحوزة نفسها في علاقةٍ خلافيةٍ مع الدولة العراقية. والحوزة أساساً هي مساحةُ تعليمٍ دينيٍّ غير رسميةٍ، واتحادٌ غيرُ رسميٍّ من المدارس الدينية والمكتبات والمكاتب والمساجد. ومن المفارقات أن فيها تسلسلاً هرمياً صارماً للتعلم الديني والنفوذ، تسلسلاً استحوذ على مخيلة الكثيرين بالرغم من كونها مؤسسةً غير رسميةٍ، ومن بين من استهوتهم الإسلامويون الشيعةُ الذين سعوا إلى تعزيز مصداقيتهم من خلال مشايعة الحوزة سواءً بشكلٍ سطحيٍّ أو وثيقٍ.

جذور النفوذ

بعد عقودٍ من التدريب تُفرز الحوزة نخبةً من رجال الدين الذين يتمتعون، من الناحية النظرية، بالنفوذ لإرشاد أتباعهم في الشؤون الشخصية والعامة، ثم يصبح بإمكانهم جباية الخُمس، وهي ضريبةٌ دينيةٌ ضخمةٌ تذهب لتمويل مدارسهم ومكاتبهم، وتبقيهم مستقلين عن رقابة الدولة المالية. ويشار إلى قادة هذه المؤسسة الدينية مجتمعين، وهم أعلى رجال الدين مرتبةً، بالمرجعية.

يستند هذا النفوذ المادي وغير المادي – الثروة والطاعة من العامة – إلى إيمان أتباعهم واستعدادهم لمنحهم هذا النفوذ. إذا لم يعدِ المعمّم مقدساً في نظر أتباعه، الأمرُ الذي يخشاه رجل الدين ذاك من المدرسة الدينية الدولية، فإن بقاء الحوزة بحد ذاته يصبح على المحك. فبحوزةٍ دون نفوذٍ سيفقد المشهد السياسي في العراق جهةً فاعلةً مهمةً لطالما عملت وسيطاً في اللحظات الحساسة والمهمة.

لقد أمضيتُ شهوراً في العمل الميداني في الحوزة، حيث تحدثتُ إلى رجال الدين ولاحظتُ تفاعلاتهم في أماكن التعليم والقيادة، كما أني أعتمد على العمل الميداني الأوسع في العراق، من قبيل المقابلات والمحادثات مع النشطاء والقادة السياسيين والصحفيين الذين يَدرسون مستقبل الحوزة ومكانتها في العراق.

ومن خلال بحثي توصلتُ إلى أن النفوذ الديني يمكن أن يتخذ ثلاثة أشكالٍ برزت في المجال العام العراقي على مدى السنوات القليلة الماضية: الشكل الأول من تأثير رجال الدين هو الشكل الموصوف أعلاه، وهو نفوذ رجل الدين بين أتباعه، والشكل الثاني هو النفوذ السياسي المباشر لرجل دينٍ اختار الانخراط رسمياً في السياسة، وأما الشكل الأخير فهو النفوذ غير الرسمي للنخبة من رجال الدين في السياسة من خلال القنوات غير الرسمية. في كلٍّ من علاقات النفوذ هذه، أطرحُ السؤال الآتي: هل تَغير نفوذ رجال الدين في العقدين الماضيين، ولماذا؟ وما هي انعكاسات ذلك على مستقبل العراق السياسي؟

كثيراً ما يتحدث الخطاب السائد عن تضاؤل تأثير رجال الدين دون تحديد نوع التأثير الذي يتضاءل، وإني أرى أن نفوذ رجال الدين بين أتباعهم قد تضاءل باضطرادٍ في السنوات القليلة الماضية واستقر الآن. أصبح نفوذ رجال الدين المباشر في السياسة – على الأقل ذلك النفوذ المرئي للعامة – أكثر تكلفةً لرجال الدين؛ غير أن نفوذ رجال الدين غير المباشر ما زال قائماً، لكن تقديرَ مداه هو الأصعب من بين جميع مناحي نفوذهم، ولذا يجب على صانعي السياسات والمحللين إدراك أن بتضاؤل نفوذ رجال الدين بين أتباعهم، تضاءلت أيضاً رغبة رجال الدين بالانخراط بوضوحٍ في السياسة نتيجة لذلك.

التأثير المستمر

في السنوات الأخيرة تضاءلتْ قدرة النخبة من رجال الدين على التأثير في السياسة من خلال الناخبين بصفتهم مؤيدين، وهو استنتاجٌ تدعمه أشكالٌ مختلفةٌ من الأدلة منها: بيانات الرأي العام، والمقابلات مع النشطاء والسياسيين، والأهم من ذلك إقرار رجال الدين أنفسِهم، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تضاؤلاً في سلطة رجال الدين عموماً، بل تقييداً لنفوذهم السياسي.

غير أن ثمة أدلةً قليلةً على أن نفوذ النخبة من رجال الدين على أتباعهم من السياسيين قد تأثر بهذا التحول في الرأي العام؛ بل على العكس تماماً، يشير المنطق إلى أنه بفعل انحسار شعبية رجال الدين المسيسين، فإنهم سيتشبثون بشدةٍ بالشرعية التي يستمدونها من المؤسسة الدينية، وبالتالي ستسعى المؤسسة الدينية إلى حماية سُمعتها، وفرض مزيدٍ من الضوابط على من يمكنه استخدام اسمها لغاياتٍ سياسيةٍ وعلى من لا يمكنه فعل ذلك. إن المرجعية تتعمد كبح نفسها من ممارسة نفوذٍ كبيرٍ على الشخصيات السياسية خشية أن تصبح أكثر تورطاً في النظام السياسي الذي رفضه العراقيون.

وبالرغم من ضبط النفس الذي تظهره المرجعية، ما تزال ثمة سبلٌ كثيرةٌ يمكن من خلالها لرجال الدين ممارسةُ نفوذهم، إذ يمكنهم ممارسة نفوذٍ رسميٍّ وغيرِ رسميٍّ على مختلف الفاعلين، كالناخبين والسياسيين والنشطاء وغيرهم. كما يمكنهم استخدام الخطاب الديني لإرسال رسائلَ مباشرةٍ من خلال الخُطب الدينية، أو التلميح أو التعبير عن موافقتهم أو رفضهم لأمرٍ ما، ويمكنهم أيضاً استخدام القنوات العامة لمخاطبة السياسيين، وبالتالي إظهار مشاركتهم في السياسة ووضع السياسيين في دائرة الضوء، أو يمكنهم استخدام القنوات الخاصة للتواصل مع السياسيين.

ركزتُ في بحثي على دراسة النفوذ المباشر لرجال الدين على أتباعهم من المواطنين، وهي فئةٌ ذات أهميةٍ كبيرةٍ لمستقبل العراق السياسي. يشكل شيعة العراق أغلبيةً كبيرةً ذاتَ قوةٍ انتخابيةٍ لا يُستهان بها، وإن للقدرة على حشدهم للتصويت أو ثنيهم عن الاحتجاج، على سبيل المثال، عواقبَ سياسيةً مباشرةً، ولذا يمكن تفهُّم انهماك الأكاديميين والصحفيين في تحديد ما إذا كان هذا الشكل من النفوذ يتعاظم أم يضعف. ورغم ذلك؛ يجب على المحللين توخي الحذر عند استخلاص النتائج حول هذا السؤال، فالنفوذ ليس سياسياً وحسب، والناخبون ليسوا وحدهم المؤيدين ممن لديهم السلطة السياسية. إن رجال الدين مدركون بأن نفوذهم يمكن أن يكون معقداً، وأن تأثيرهم قد يكون مباشراً أو غير مباشرٍ، ويجب على الباحثين أن يعوا ذلك أيضاً.


هذا التعليق هو نسخةٌ مختصرةٌ عن تقريرٍ لمركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان لم يفقد رجال الدين الشيعة في العراق نفوذهم.  نُشر التقرير ضمن مشروعٍ أطلقته مؤسسة القرن بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023″، ويدرس التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا البحث في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة التقارير الأصلية باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

مارسين الشمري هي أستاذٌ مساعدٌ بجامعة بوسطن وزميل زائر بمعهد بروكينجز.

التسمية التوضيحية: رجلٌ في كربلاء بالعراق وفي الخلفية ضريح الإمام الحسين. المصدر: ياسمين مردان / Getty Images