يوحي مسح سريع لساحات الإعلام المعاصر والسياسات والأكاديمية بأننا نعيش في عصر الميليشيات، حيث أصبحت الميليشيات جهات فاعلة متزايدة الانتشار وتحديًا سياسيًا متصاعدًا في النزاعات المسلحة المعاصرة. لكن هل عدد الميليشيات الحالي أكثر بالفعل من عددهم في أي وقت مضى؟ أم أن هناك فقط المزيد من الانتباه المصبوب عليهم؟
الإجابات على هذه الأسئلة مبهمة. غاب عن النقاش حول الميليشيات أي التفات للسياسات الكامنة في تسمية الجماعات المسلحة بـ«الميليشيات». غالبًا ما يُفترض أن للمصطلح معنى محايد عند مقارنته بتسميات أخرى محل خلاف كبير مثل الإرهابيين أو العصابات أو المتمردين أو شبه العسكريين. لكن في الواقع ، فإن لقب «الميليشيا» ينطوي على توضيح وتعتيم في آنٍ واحد.
يسعى هذا التعليق إلى فهم ما يقود «مَلشنة» التفكير في العنف الجماعي المنظم، وتوضيح أن إرث نظريات «الحرب الجديدة» والنظام العالمي الناشئ -الذي لم تعد قوى شمال الأطلسي تحتل الصدارة فيه- ضروريان لفهم عصر الميليشيات المزعوم.
عقيدة الحروب الجديدة
إن معنى «الميليشيا» في أي صراع معين له ظروفه التاريخية، ومرهون بالسياق، ومُختَلَف عليه بشدة، كما لا يهتم القانون الدولي الإنساني بتعريف الميليشيات بقدر اهتمامه بمسألة ما إذا كان يمكن اعتبار الميليشيات مثل القوات غير النظامية أو القوات المساعدة الأخرى شرعية. كثيرًا ما تنظر الخطابات الأكاديمية والسياسية الغربية إلى الميليشيات على أنها جماعات مسلحة ذاتيًا أو تابعة للدولة -تتكون عادة، وإن لم يكن دائمًا، من المدنيين- الذين تجند بواسطة السلطات أو تأخذ على عاتقها الدفاع عن مجتمع أو عن غاية مثالية، حتى لو كان هذا الدفاع يحرض تلك الجماعات ضد جهاز دولة معترف به أو ضد قوة أجنبية محتلة بشكل قانوني.
هناك طرق تلعب بها الميليشيات دورًا مهمًا في تشكيل البيئة العالمية للعنف المنظم، إلا أن هذا الدور لا يبدو أكبر نسبيًا في السنوات الأخيرة مما كان عليه في العقود السابقة. على سبيل المثال، تُشير مجموعة بيانات مُحدَثة مؤخرًا، والتي تركز بشكل خاص على الميليشيات الموالية للحكومة، إلى أن كل الاهتمام الأكاديمي والسياسي الذي يركز على الميليشيات مؤخرًا له مسوغاته. ابتداءً من أوائل الثمانينيات، كانت هناك زيادة في عدد هذا النوع من الميليشيات في جميع أنحاء العالم (حيثُ تضاعف عددهم تقريبًا). بلغ عدد الميليشيات ذروته لأول مرة في أواخر التسعينيات ثم ارتفع مرة أخرى من عام 2010 إلى 2014، وهو العام الأخير المُفَهرَس في مجموعة البيانات حتى الآن. ومع ذلك، تعكس هذه النَزَعات ببساطة عدد النزاعات المسلحة المستمرة في جميع أنحاء الكوكب، والتي ارتفعت أيضًا خلال الثمانينيات وبلغت ذروتها في منتصف التسعينيات، وتلاها انخفاض موجز في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثم عاود عدد النزاعات المسلحة العالمية الصعود في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى انتشار وتكثيف الصراعات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الساحل الإفريقي.
النزاعات المسلحة اليوم ليست أكثر أو أقل تعقيدًا مما كانت عليه في العقود الأخيرة، بما في ذلك تلك التي تتمتع بمستويات عالية ملحوظة من التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر.
وبالتوازي، يمكن تتبع الزيادة الملحوظة في عدد الجماعات المسلحة غير الحكومية القابلة للتحديد، والمُشارِكة في النزاعات، مع عدد النزاعات في جميع أنحاء العالم. النزاعات المسلحة اليوم ليست أكثر أو أقل تعقيدًا مما كانت عليه في العقود الأخيرة، بما في ذلك تلك التي تتمتع بمستويات عالية ملحوظة من التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر (مثل النزاعات في جمهورية الكونغو الديمقراطية وسوريا). كيف يمكننا إذن تفسير الثقل الفكري والسياسي غير المتناسب الذي أُعطي للميليشيات مؤخرًا؟ أحد التفسيرات المحتملة هو عقيدة «الحروب الجديدة»، التي ترى أنه لم يعد من الممكن تحديد الصراع بوضوح أو بدقة كما في الماضي -وهي وجهة نظر لم تستحوذ على خيال عدد لا يحصى من العلماء فحسب، بل استحوذت أيضًا على خيال الممارسين الحكوميين وغير الحكوميين. كما حاججت بها هيلاري كلينتون في فيلم وثائقي في برنامج تلفزيوني عام 2011، عندما كانت وزيرة للخارجية: «لقد حان الوقت لإعادة تعريف ما نعنيه بالحرب، لأنه لا توجد خطوط أمامية في الحروب في عالم اليوم. الحقيقة هي أنه في حروب اليوم، الضحايا الرئيسيون هم من النساء والأطفال» .
مع اندلاع عدد كبير من النزاعات المسلحة الجديدة ومن الفظائع الجماعية في أعقاب الحرب الباردة، أصبحت فكرة ظهور نوع جديد من الحرب معتادة بشكل متزايد . الأكثر شهرة وإثارة للجدل من هذه الأطروحات هي بلا شك أطروحة «الحروب الجديدة» لماري كالدور، والتي قدمتها في كتابها المنشور عام 1999، تحت عنوان «الحروب القديمة والجديدة/ New and Old War». أكد منظرو «الحرب الجديدة»، مثل كالدور، أن الحروب أصبحت أقل تقييدًا وأكثر بطشًا، خاصة للمدنيين؛ كما أن المشاركين، سواء كانوا من قوات الدولة أم من المعارضة، يشبهون المؤسسات الإجرامية أكثر بكثير من الجيوش المنضبطة؛ وأن الهوية، بدلًا من الأيديولوجيا، أصبحت المحرك الرئيسي للعنف؛ كما أن هذه الحروب قد بنيت على التكنولوجيا وفرص العولمة، حيثُ أثيرت كرد فعل على استعمار العولمة الجشع للكوكب. تنبأ منظرو «الحرب الجديدة» بانهيار مشروع الحداثة المتمثل في الدمج العالمي للدول القومية متعددة الأعراق -فقد اعتقدوا أن المشروع سينقسم من أعلى إلى أسفل تحت ضغوط العولمة العابرة للحدود، ومن أسفل إلى أعلى تحت ضغوط قوى الخصوصية القائمة على الهوية. حاججت كالدور بأن الحروب الجديدة ستكون حروبًا من أجل تفكيك الدولة.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن كالدور وغيرها من منظري «الحرب الجديدة» توصلوا إلى أن تحليلهم بسبب تأثير ما يسمى بالنزاعات منخفضة الحدة في النصف الثاني من القرن العشرين. امتدت هذه الصراعات -التي لم تكن ذات تأثير ضئيل بالنسبة للملايين الذين قتلوا- من حقبة حرب فيتنام إلى انتشار الحروب بالوكالة في أواخر الحرب الباردة، تحديدًا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية .
لم يكن الاقتصاد السياسي الدولي للحروب الجديدة والأشكال «المنحدرة» من التنظيم أثرًا للعولمة بقدر ما كان تكيفًا مع عالم خالٍ من تنافس القوى العظمى.
ورغم اعتماد منظري «الحرب الجديدة» على التحدي التحليلي الحقيقي الذي طرحته هذه الصراعات، فإن السجلات التجريبية التي أشاروا إليها لم تدعم الكثير من ادعاءاتهم. يبدو أن الحروب في أواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين لم تستهدف المدنيين أكثر مما كانت تستهدفهم في النزاعات السابقة؛ ويمكن القول إنه بشكل عام، في الواقع، أصبح الصراع أقل بطشًا بشكل متزايد منذ حرب فيتنام. وفي الكثير من الأحيان، ثبت أن المدى الذي بدت فيه الهوية تلعب دورًا في إثارة أو استمرار النزاع المسلح والعنف الجماعي أقل وضوحًا مما أكد عليه منظرو «الحرب الجديدة» . لم يكن الاقتصاد السياسي الدولي للحروب الجديدة والأشكال «المنحدرة» من التنظيم (الميليشيات الإجرامية، والجنود غير المحترفين) أثرًا للعولمة بقدر ما كان تكيفًا مع عالم خالٍ من تنافس القوى العظمى لتمويل التمرد أو القمع .
هناك أيضًا توجه واسع النطاق، يعود للحرب العالمية الثانية، بالنظر دائمًا إلى الحروب المعاصرة على أنها مختلفة عن الحروب السابقة . لكن جزءًا كبيرًا من الطابع الجديد المزعوم لصراعات أواخر الحرب الباردة لم يكن في الواقع جديدًا. في معظم الأحيان، استُنبِطت ثنائية الحرب القديمة- الجديدة من نزاعين استثنائيين فقط، الحرب العالمية الثانية وتفكك يوغوسلافيا، على التوالي .
عمل «الميليشيات»
إذا كانت الميليشيات لا تمثل في الواقع تحديًا سياسيًا وفكريًا جديدًا أو فريدًا، لماذا أصبحت إذن وسيلةً أساسية يقرأ من خلالها النزاعات في السنوات الأخيرة ؟
أولًا، قد نسأل عن العمل الخطابي لوصف «الميليشيا» وأثره عند تطبيقه على جماعة مسلحة. غالبًا، إن لم يكن دائمًا، ما تنتج الصراعات شديدة العنف، خاصةً تلك التي تتصاعد إلى مستوى العنف المنظم،«سياسات التسمية». هذا ليس حدثًا مفاجئًا، كما أنه ليس ظاهرة غير معترف بها . تمتد سياسات التسمية إلى المراقبين الخارجيين للنزاعات، وتحاصرهم، بدءًا من الذين لديهم مصلحة في الصراع وصولًا إلى الذين يدَّعون الموضوعية الأكاديمية أو الصحفية أو الاستراتيجية. وهناك أيضًا حالات تُفرض فيها سياسات التسمية من الخارج، وغالبًا ما يتم ذلك بطرق لا علاقة لها بتعريف الفصائل لنفسها فعليًا. على سبيل المثال، معظم ما تسميه الصحافة الأجنبية وصناع القرار والباحثون بـ«الميليشيات» في ليبيا لا يرون أنفسهم كذلك، بل يرون أنهم مكونات لمؤسسات عسكرية رسمية.
ثانيًا، هناك سؤال حول ما إذا كان مصطلح «ميليشيا» له معنى معياري بطبيعته أم لا -بعبارة أخرى، ما إذا كان مصطلحًا له معنى موضوعي وخالي من القيمة. وبهذا الصدد، قد يستخدم المحللون كلمة «ميليشيا» على وجه التحديد لأن هناك افتراض بأن المصطلح ليس له طابع معياري. لكن هذا الادعاء بالحياد أو الموضوعية هو في حد ذاته موقف معياري. يستمر العمل في مجال دراسات الإرهاب، في كلٍّ من اتجاهاته السائدة وفروعه التي تُعرف نفسها بالنقدية، في ظل معيارية ركيزة الـ«الإرهاب» كمفهوم (بعبارة أخرى، باعتباره عنفًا شريرًا). من ناحية أخرى، تحصل «الميليشيا» على الظل الأخلاقي الخطابي الخاص بها اعتمادًا على السياق فقط -أي من منظور كل من المُسمي والمُسَمًى والجمهور. يمكننا أن نتخيل بسهولة مصطلح «ميليشيا» باعتباره تسمية تضفي شرعية في بعض السياقات، وتنزعها في أخرى.
أخيرًا، والأهم من ذلك كله، ينبغي ألا تُحصر السياسة المرتبطة بسياسات التسمية في تحديد التناقضات أو النفاق أو في مجرد تفكيك سياقات النشر أو الاستقبال أو التداول. الاهتمام المتزايد بـ«الإرهاب» كمشكلة سياسية وشاغل فكري في السبعينيات والثمانينيات كان مدفوعًا إلى حد كبير بسياسات الحرب الباردة التي تركزت على مسألة الدولة الفلسطينية . واليوم، فإن أصل الاهتمام الفكري والسياسي بـ«الميليشيات» مستحقٌ للبحث أيضًا. ويعد جزءًا من سبب الاهتمام هو على الأرجح التأثير المستمر لفكر «الحرب الجديدة»، إن لم يكن الإصرار العام على أن الصراعات اليوم يجب أن تكون مختلفة لأن العالم مختلف. حيث من خلال عدسة «الميليشيات» نرى عالمًا يتزايد اضطرابه، ويتوافق مع القلق الفكري والسياسي المتزايد بين قوى شمال الأطلسي حول مكانتهم في نظام عالمي لم يعد يبدو منظمًا وفقًا لقواعدهم.
هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.
—
كتابة:
جاكوب موندي، أستاذ مساعد في دراسات السلام والصراع بجامعة كولجيت، وزميل زائر غير مقيم بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وباحث سابق ببرنامج فولبرايت/ Fulbright في تونس. أجرى أبحاثًا ونشر على نطاق واسع حول قضايا النزاع المسلح والتدخل الأجنبي في الصحراء الغربية والجزائر وليبيا والصحراء والساحل.
Tags: militias
الميليشيات ليست بالشيء الجديد على عكس تركيزنا عليها
يوحي مسح سريع لساحات الإعلام المعاصر والسياسات والأكاديمية بأننا نعيش في عصر الميليشيات، حيث أصبحت الميليشيات جهات فاعلة متزايدة الانتشار وتحديًا سياسيًا متصاعدًا في النزاعات المسلحة المعاصرة1. لكن هل عدد الميليشيات الحالي أكثر بالفعل من عددهم في أي وقت مضى؟ أم أن هناك فقط المزيد من الانتباه المصبوب عليهم؟
الإجابات على هذه الأسئلة مبهمة. غاب عن النقاش حول الميليشيات أي التفات للسياسات الكامنة في تسمية الجماعات المسلحة بـ«الميليشيات». غالبًا ما يُفترض أن للمصطلح معنى محايد عند مقارنته بتسميات أخرى محل خلاف كبير مثل الإرهابيين أو العصابات أو المتمردين أو شبه العسكريين. لكن في الواقع ، فإن لقب «الميليشيا» ينطوي على توضيح وتعتيم في آنٍ واحد.
يسعى هذا التعليق إلى فهم ما يقود «مَلشنة»2 التفكير في العنف الجماعي المنظم، وتوضيح أن إرث نظريات «الحرب الجديدة» والنظام العالمي الناشئ -الذي لم تعد قوى شمال الأطلسي تحتل الصدارة فيه- ضروريان لفهم عصر الميليشيات المزعوم.
عقيدة الحروب الجديدة
إن معنى «الميليشيا» في أي صراع معين له ظروفه التاريخية، ومرهون بالسياق، ومُختَلَف عليه بشدة، كما لا يهتم القانون الدولي الإنساني بتعريف الميليشيات بقدر اهتمامه بمسألة ما إذا كان يمكن اعتبار الميليشيات مثل القوات غير النظامية أو القوات المساعدة الأخرى شرعية. كثيرًا ما تنظر الخطابات الأكاديمية والسياسية الغربية إلى الميليشيات على أنها جماعات مسلحة ذاتيًا أو تابعة للدولة -تتكون عادة، وإن لم يكن دائمًا، من المدنيين- الذين تجند بواسطة السلطات أو تأخذ على عاتقها الدفاع عن مجتمع أو عن غاية مثالية، حتى لو كان هذا الدفاع يحرض تلك الجماعات ضد جهاز دولة معترف به أو ضد قوة أجنبية محتلة بشكل قانوني.
هناك طرق تلعب بها الميليشيات دورًا مهمًا في تشكيل البيئة العالمية للعنف المنظم، إلا أن هذا الدور لا يبدو أكبر نسبيًا في السنوات الأخيرة مما كان عليه في العقود السابقة. على سبيل المثال، تُشير مجموعة بيانات مُحدَثة مؤخرًا، والتي تركز بشكل خاص على الميليشيات الموالية للحكومة، إلى أن كل الاهتمام الأكاديمي والسياسي الذي يركز على الميليشيات مؤخرًا له مسوغاته. ابتداءً من أوائل الثمانينيات، كانت هناك زيادة في عدد هذا النوع من الميليشيات في جميع أنحاء العالم (حيثُ تضاعف عددهم تقريبًا). بلغ عدد الميليشيات ذروته لأول مرة في أواخر التسعينيات ثم ارتفع مرة أخرى من عام 2010 إلى 2014، وهو العام الأخير المُفَهرَس في مجموعة البيانات حتى الآن3. ومع ذلك، تعكس هذه النَزَعات ببساطة عدد النزاعات المسلحة المستمرة في جميع أنحاء الكوكب، والتي ارتفعت أيضًا خلال الثمانينيات وبلغت ذروتها في منتصف التسعينيات، وتلاها انخفاض موجز في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. ثم عاود عدد النزاعات المسلحة العالمية الصعود في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى انتشار وتكثيف الصراعات في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الساحل الإفريقي4.
وبالتوازي، يمكن تتبع الزيادة الملحوظة في عدد الجماعات المسلحة غير الحكومية القابلة للتحديد، والمُشارِكة في النزاعات، مع عدد النزاعات في جميع أنحاء العالم5. النزاعات المسلحة اليوم ليست أكثر أو أقل تعقيدًا مما كانت عليه في العقود الأخيرة، بما في ذلك تلك التي تتمتع بمستويات عالية ملحوظة من التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر (مثل النزاعات في جمهورية الكونغو الديمقراطية وسوريا). كيف يمكننا إذن تفسير الثقل الفكري والسياسي غير المتناسب الذي أُعطي للميليشيات مؤخرًا؟ أحد التفسيرات المحتملة هو عقيدة «الحروب الجديدة»، التي ترى أنه لم يعد من الممكن تحديد الصراع بوضوح أو بدقة كما في الماضي -وهي وجهة نظر لم تستحوذ على خيال عدد لا يحصى من العلماء فحسب، بل استحوذت أيضًا على خيال الممارسين الحكوميين وغير الحكوميين. كما حاججت بها هيلاري كلينتون في فيلم وثائقي في برنامج تلفزيوني عام 2011، عندما كانت وزيرة للخارجية: «لقد حان الوقت لإعادة تعريف ما نعنيه بالحرب، لأنه لا توجد خطوط أمامية في الحروب في عالم اليوم. الحقيقة هي أنه في حروب اليوم، الضحايا الرئيسيون هم من النساء والأطفال» 6.
مع اندلاع عدد كبير من النزاعات المسلحة الجديدة ومن الفظائع الجماعية في أعقاب الحرب الباردة، أصبحت فكرة ظهور نوع جديد من الحرب معتادة بشكل متزايد 7. الأكثر شهرة وإثارة للجدل من هذه الأطروحات هي بلا شك أطروحة «الحروب الجديدة» لماري كالدور، والتي قدمتها في كتابها المنشور 8عام 1999، تحت عنوان «الحروب القديمة والجديدة/ New and Old War». أكد منظرو «الحرب الجديدة»، مثل كالدور، أن الحروب أصبحت أقل تقييدًا وأكثر بطشًا، خاصة للمدنيين؛ كما أن المشاركين، سواء كانوا من قوات الدولة أم من المعارضة، يشبهون المؤسسات الإجرامية أكثر بكثير من الجيوش المنضبطة؛ وأن الهوية، بدلًا من الأيديولوجيا، أصبحت المحرك الرئيسي للعنف؛ كما أن هذه الحروب قد بنيت على التكنولوجيا وفرص العولمة، حيثُ أثيرت كرد فعل على استعمار العولمة الجشع للكوكب. تنبأ منظرو «الحرب الجديدة» بانهيار مشروع الحداثة المتمثل في الدمج العالمي للدول القومية متعددة الأعراق -فقد اعتقدوا أن المشروع سينقسم من أعلى إلى أسفل تحت ضغوط العولمة العابرة للحدود، ومن أسفل إلى أعلى تحت ضغوط قوى الخصوصية القائمة على الهوية. حاججت كالدور بأن الحروب الجديدة ستكون حروبًا من أجل تفكيك الدولة.
من الجدير بالذكر هنا الإشارة إلى أن كالدور وغيرها من منظري «الحرب الجديدة» توصلوا إلى أن تحليلهم بسبب تأثير ما يسمى بالنزاعات منخفضة الحدة في النصف الثاني من القرن العشرين. امتدت هذه الصراعات -التي لم تكن ذات تأثير ضئيل بالنسبة للملايين الذين قتلوا- من حقبة حرب فيتنام إلى انتشار الحروب بالوكالة في أواخر الحرب الباردة، تحديدًا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية 9.
ورغم اعتماد منظري «الحرب الجديدة» على التحدي التحليلي الحقيقي الذي طرحته هذه الصراعات، فإن السجلات التجريبية التي أشاروا إليها لم تدعم الكثير من ادعاءاتهم. يبدو أن الحروب في أواخر القرن العشرين وأوائل الحادي والعشرين لم تستهدف المدنيين أكثر مما كانت تستهدفهم في النزاعات السابقة؛ ويمكن القول إنه بشكل عام، في الواقع، أصبح الصراع أقل بطشًا بشكل متزايد منذ حرب فيتنام10. وفي الكثير من الأحيان، ثبت أن المدى الذي بدت فيه الهوية تلعب دورًا في إثارة أو استمرار النزاع المسلح والعنف الجماعي أقل وضوحًا مما أكد عليه منظرو «الحرب الجديدة» 11. لم يكن الاقتصاد السياسي الدولي للحروب الجديدة والأشكال «المنحدرة» من التنظيم (الميليشيات الإجرامية، والجنود غير المحترفين) أثرًا للعولمة بقدر ما كان تكيفًا مع عالم خالٍ من تنافس القوى العظمى لتمويل التمرد أو القمع 12.
هناك أيضًا توجه واسع النطاق، يعود للحرب العالمية الثانية، بالنظر دائمًا إلى الحروب المعاصرة على أنها مختلفة عن الحروب السابقة 13. لكن جزءًا كبيرًا من الطابع الجديد المزعوم لصراعات أواخر الحرب الباردة لم يكن في الواقع جديدًا. في معظم الأحيان، استُنبِطت ثنائية الحرب القديمة- الجديدة من نزاعين استثنائيين فقط، الحرب العالمية الثانية وتفكك يوغوسلافيا، على التوالي 14.
عمل «الميليشيات»
إذا كانت الميليشيات لا تمثل في الواقع تحديًا سياسيًا وفكريًا جديدًا أو فريدًا، لماذا أصبحت إذن وسيلةً أساسية يقرأ من خلالها النزاعات في السنوات الأخيرة 15؟
أولًا، قد نسأل عن العمل الخطابي لوصف «الميليشيا» وأثره عند تطبيقه على جماعة مسلحة. غالبًا، إن لم يكن دائمًا، ما تنتج الصراعات شديدة العنف، خاصةً تلك التي تتصاعد إلى مستوى العنف المنظم،«سياسات التسمية». هذا ليس حدثًا مفاجئًا، كما أنه ليس ظاهرة غير معترف بها 16. تمتد سياسات التسمية إلى المراقبين الخارجيين للنزاعات، وتحاصرهم، بدءًا من الذين لديهم مصلحة في الصراع وصولًا إلى الذين يدَّعون الموضوعية الأكاديمية أو الصحفية أو الاستراتيجية. وهناك أيضًا حالات تُفرض فيها سياسات التسمية من الخارج، وغالبًا ما يتم ذلك بطرق لا علاقة لها بتعريف الفصائل لنفسها فعليًا. على سبيل المثال، معظم ما تسميه الصحافة الأجنبية وصناع القرار والباحثون بـ«الميليشيات» في ليبيا لا يرون أنفسهم كذلك، بل يرون أنهم مكونات لمؤسسات عسكرية رسمية.
ثانيًا، هناك سؤال حول ما إذا كان مصطلح «ميليشيا» له معنى معياري بطبيعته أم لا -بعبارة أخرى، ما إذا كان مصطلحًا له معنى موضوعي وخالي من القيمة. وبهذا الصدد، قد يستخدم المحللون كلمة «ميليشيا» على وجه التحديد لأن هناك افتراض بأن المصطلح ليس له طابع معياري. لكن هذا الادعاء بالحياد أو الموضوعية هو في حد ذاته موقف معياري. يستمر العمل في مجال دراسات الإرهاب، في كلٍّ من اتجاهاته السائدة وفروعه التي تُعرف نفسها بالنقدية، في ظل معيارية ركيزة الـ«الإرهاب» كمفهوم (بعبارة أخرى، باعتباره عنفًا شريرًا)17. من ناحية أخرى، تحصل «الميليشيا» على الظل الأخلاقي الخطابي الخاص بها اعتمادًا على السياق فقط -أي من منظور كل من المُسمي والمُسَمًى والجمهور. يمكننا أن نتخيل بسهولة مصطلح «ميليشيا» باعتباره تسمية تضفي شرعية في بعض السياقات، وتنزعها في أخرى.
أخيرًا، والأهم من ذلك كله، ينبغي ألا تُحصر السياسة المرتبطة بسياسات التسمية في تحديد التناقضات أو النفاق أو في مجرد تفكيك سياقات النشر أو الاستقبال أو التداول. الاهتمام المتزايد بـ«الإرهاب» كمشكلة سياسية وشاغل فكري في السبعينيات والثمانينيات كان مدفوعًا إلى حد كبير بسياسات الحرب الباردة التي تركزت على مسألة الدولة الفلسطينية 18. واليوم، فإن أصل الاهتمام الفكري والسياسي بـ«الميليشيات» مستحقٌ للبحث أيضًا. ويعد جزءًا من سبب الاهتمام هو على الأرجح التأثير المستمر لفكر «الحرب الجديدة»، إن لم يكن الإصرار العام على أن الصراعات اليوم يجب أن تكون مختلفة لأن العالم مختلف. حيث من خلال عدسة «الميليشيات» نرى عالمًا يتزايد اضطرابه، ويتوافق مع القلق الفكري والسياسي المتزايد بين قوى شمال الأطلسي حول مكانتهم في نظام عالمي لم يعد يبدو منظمًا وفقًا لقواعدهم.
هذا التقرير هو جزء من «نَزَعات المواطنة العابرة للحدود: الاستبداد وثقافة المقاومة العالمية الناشئة»، أحد مشروعات مؤسسة القرن/ The Century Foundation بدعم من مؤسسة كارنيجي/ Carnegie Corporation، في نيويورك، ومؤسسات المجتمع المفتوح/ the Open Society Foundations.
—
كتابة:
جاكوب موندي، أستاذ مساعد في دراسات السلام والصراع بجامعة كولجيت، وزميل زائر غير مقيم بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وباحث سابق ببرنامج فولبرايت/ Fulbright في تونس. أجرى أبحاثًا ونشر على نطاق واسع حول قضايا النزاع المسلح والتدخل الأجنبي في الصحراء الغربية والجزائر وليبيا والصحراء والساحل.
Notes
Tags: militias