لم يفصح آية الله العظمى علي السيستاني عن ايديولوجيته السياسية علناً قط، لكنه أظهر احتراماً كبيراً لسيادة الشعب العراقي في السنوات التي تلت إسهامه في هزيمة تنظيم داعش بدعوته الشعبية لحمل السلاح. يتناقض نهج السيستاني تناقضاً ملحوظاً مع النهج الإيراني القائم على السيطرة الكاملة لرجال الدين، ويجعله واحداً من أهم المرجعيات في التاريخ.


بحلول خريف سنة 2014، وجد العراق نفسه في واحدةً من أخطر اللحظات في تاريخه الحديث، فقد اجتاح تنظيم الدولة الإسلامية الريف الشمالي والغربي للبلاد بسهولةٍ ووحشيةٍ، مخلفاً وراءه مشاهد مروعةً من المذابح والدمار. لم تكن هزيمته النهائية مؤكدةً بأي حالٍ من الأحوال، إذ كان جُل التركيز منصبّاً على منع ذلك التنظيم المتطرف من الاستيلاء على بغداد. وفي نهاية الصيف اضطر نوري المالكي للتنازل عن رئاسة الوزراء، منهياً فترة ثماني سنواتٍ كان عنوانها الفشل والإخفاق.

في هذه اللحظة الحالكة، برَزَ زعيمٌ عراقيٌّ بفضل عمله ونفوذه، وهو آية الله العظمى علي السيستاني، أبرزُ زعيمٍ دينيٍّ شيعيٍّ لا في العراق وحسبُ بل وفي العالم، فقد سطَعَ نجمه خلال أزمة العراق غير المسبوقة من خلال دعوته مواطني البلاد إلى حمل السلاح للتصدي لتنظيم الدولة الإسلامية. جاءت دعوته في حزيران / يونيو 2014 على شكل فتوىً، لكنها كانت موجهةً للعراقيين من جميع الأديان، وقد تكللت تلك الدعوة بانضمام عشرات آلاف العراقيين إلى قوات الأمن والمجموعات شبه العسكرية، وبحلول نهاية عام 2015 كانوا يردّون تنظيم الدولة الإسلامية على أعقابه.

كان تدخّل السيستاني لافتاً للنظر بحقٍّ، فعلى عكس الأئمة الذين يسيطرون على إيران ويتشبثون بفلسفةٍ قوامها سيطرة رجال الدين شبه المطلقة على الحكومة والسياسة، يؤمن السيستاني بنهجٍ غير مباشرٍ في السياسة. ينتقد أتباعُ النموذج الإيراني (المعروف بولاية الفقيه) فلسفةَ السيستاني بوصفها هادئةً، لكن واقع الحال أكثر تعقيداً بكثيرٍ. فكما يُظهر كتابي القادمُ عن حياة السيستاني السياسية (رجل الله في العراق: حياة وقيادة آية الله العظمى علي السيستاني، نيويورك: مؤسسة القرن)، السيستاني رجلٌ ذو مُثُلٍ راسخةٍ يؤمن أن تلك المُثل لا يمكن تحقيقها إلا من خلال تعبير الشعب عن إرادته. لقد شكلت دعوته المباشرة للشعب العراقي للتعبئة ومواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، في وقتٍ كان الجيش النظامي يتجرع فيه الهزيمة تلوى الأخرى، نقطةَ تحولٍ في مسيرة رجل الدين الذي كان في الرابعة والثمانين وقتذاك، وعززت مكانته كواحدٍ من أبرز المرجعيات في تاريخ الإسلام الشيعي الممتد لقرونٍ.

وباستقالة المالكي من منصبه، أعرب السيستاني عن آمالٍ أخرى لمستقبل العراق: فقد رأى فرصةً لتعافي ذلك البلد بدعمٍ دوليٍ في قتاله ضد تنظيم الدولة الإسلامية، وإعادة بناء علاقاته الخارجية، وإجراء إصلاحاتٍ مهمةٍ، واستعادة ثقة الشعب العراقي في النظام السياسي.

كان بإمكان السيستاني الاستفادة من سطوع نجمه للاضطلاع بدورٍ أقوى بكثيرٍ في السياسة العراقية وتحقيق تلك الأهداف، غير أنه ظل وفياً لايديولوجيته المديدة، واختار في السنوات العشر الماضية أسلوباً أكثر حذراً في التعامل مع المشهد السياسي في العراق، فقد ضغط برفقٍ لإحداث تغييراتٍ معينةٍ من خلال شبكاته الواسعة، لكنه امتنع عن الخوض مباشرةً في الساحة السياسية، وبذا كان العقد الماضي علامةً فارقةً في تعريف إرث السيستاني.

من خلال ما فعله من عام 2014 إلى الوقت الحاضر أظهر السيستاني أنه لاعبٌ سياسيٌّ رئيسٌ في العراق، إذ استخدم نفوذه التقليدي، وسخّر رأس ماله الديني والاجتماعي والرمزي دون التخلي عن مبدئه الأساسي المتمثل في أن الشعب أًولى باستلام دفة التغيير. يمثل رجل الدين هذا، وهو الآن في الثالثة والتسعين، شخصيةً فريدةً في العراق وفي العالم، ويقدم منظوراً مختلفاً عن معنى وإمكانات القوة والقيادة الشيعية. (لدراسةٍ مفصلةٍ عن هذا الموضوع، انظر كتابي القادم: “رجل الله في العراق: حياة وقيادة آية الله العظمى علي السيستاني.”)

عماد سيادة الشعب

من المقرر إجراء الانتخابات المقبلة في العراق في تشرين الأول / أكتوبر 2025، وحتى ذلك الحين قد لا تتطلب الأحداث من السيستاني التعليق أو التدخل في المسائل السياسية. وحتى وقت كتابة هذا التقرير، لا يزال السيستاني يستقبل المؤمنين والمهنئين كل يومٍ تقريباً، لكنه يواصل مقاطعته للسياسيين العراقيين، ولا يزال يُنظر إليه على أنه ناقدٌ للنخبة السياسية ومعارضٌ لها، كما لا يزال السيستاني يقيِّم الحكومة الحالية برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، لكن حتى الآن لم يصدر أي انتقادٍ واضحٍ لها من النجف. إن دور السيستاني في السياسة اليوم أصغر بكثيرٍ مما كان عليه من قبل، لكنه لا يزال يراقب المسائل السياسية عن كثبٍ.

وأياً كان ما تحمله السنوات القليلة المقبلة، فإن العقد الذي انقضى منذ ما يسمى بفتوى السيستاني بحمل السلاح ضد الدولة الإسلامية قد عزز مكانته في تاريخ العراق وفي تاريخ الإسلام الشيعي. لقد استخدم السيستاني بمهارةٍ نفوذه الكاريزمي والتقليدي والعقلاني القانوني في مختلف المراحل للتأثير في الشؤون العراقية، لكن دون تجاوز حدود فلسفته الواضحة والقائمة على التأثير بدلاً من السيطرة، ويمكن القول إنه المرجعية الأكثر تأثيراً في القرون العديدة الماضية.

لم يشرح السيستاني مطلقاً ايديولوجيته السياسية بإسهابٍ، لكن ما قاله – وما يمكننا استخلاصه من تحليلٍ دقيقٍ لكتاباته وخطاباته وأنشطته – يؤكد أن سيادة الشعب هي إحدى ركائز فكره، وقد أطلق العديدُ من الكتاب الذين حللوا شخصية السيستاني على هذه الفلسفة اسمَ “ولاية الأمة”، في تناقضٍ واضحٍ مع مفهوم “ولاية الفقيه”، وهي نموذج السيطرة السياسية الإسلامية في إيران. وعندما سُئل في آب / أغسطس 2003، بعد نحو خمسة أشهرٍ من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، عن نوع النظام السياسي الذي يراه السيستاني مناسباً للعراق، كان رده: “النظام الذي يعتمد مبدأ الشورى والتعددية واحترام حقوق جميع المواطنين.”

أظهر فصل ما بعد عام 2014 من حياة السيستاني ومسيرته كيف تُترجم هذه الفلسفة إلى ممارسةٍ عمليةٍ. إن عدم حل السيستاني بمفرده مشاكلَ العراق الكثيرةَ لا يُعد دليلاً على وجود عيوبٍ في فلسفته وفكره، بل يظهر أن لنفوذه السياسي حدوداً، كما هو حال أي أحدٍ آخر، وأنه يفضّل الالتزام طويل الأجل بمبادئه على السعي لتحقيق مكاسبَ قصيرةِ الأجل.


هذا التعليق هو نسخةٌ مختصرةٌ عن “آية الله العظمى علي السيستاني مرشداً وناقداً، 2014–23″، وهو أحد فصول كتابٍ نشرهُ مركزُ القرن للبحوث والسياسات الدولية بعنوان “نضوج السلطة الشيعية: تحول السياسة الإسلاموية في العراق، 2003-2023”، ويدرس الكتاب التحولَ الجذري الذي طرأ على السياسة الإسلاموية الشيعية في العراق على مدى العقدين الماضيين.  نأمل أن يساعد هذا الكتاب في تعزيز فهم السياسة والإسلاموية الشيعية، وعلى نطاقٍ أوسع، السياسة الدينية في الشرق الأوسط بين صانعي السياسة والباحثين وحتى الفاعلين السياسيين أنفسهم. يمكن مطالعة تقارير المشروع السابقة باللغة الإنجليزية على موقع مؤسسة القرن.

هذا التقرير جزءٌ من مشروع “الإيمان والتصدع”، وهو أحد مشاريع مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية بدعمٍ من “مؤسسات المجتمع المفتوح” ومؤسسة هنري لوس.

سجاد جياد هو زميلٌ باحثٌ في مركز القرن للبحوث والسياسات الدولية ومدير مجموعة عمل السياسة الشيعية، هذا بالإضافة إلى عمله كمدير تنفيذي لمركز جسر العراق، وهي منظمة عراقية غير ربحية مقرها بغداد وتعمل على تقديم الاستشارات لمشاريع التنمية التي تستهدف الشباب.

التسمية التوضيحية: جنودٌ عراقيون يحاولون ضبط أنصار رئيس الوزراء العراقي آنذاك، إبراهيم الجعفري، أثناء ترحيبهم به في 17 كانون الأول / ديسمبر 2005 في مدينة النجف الشيعية المقدسة. صورةٌ لآية الله العظمى علي السيستاني أعلى الحشود. المصدر: سعد سرحان / Getty Images